يقال إن المصريين أول من عرف مفهوم الدولة فى التاريخ، لذا تعرف مصر بأنها أقدم دولة فى التاريخ، غير أن ما يجرى على أرضها الآن يشى بأنها تمر بحالة نكوص أو ارتداد إلى طفولة القبيلة وتبدو وكأنها تريد أن تبقى قطعا متناثرة على لوحة الجغرافيا. ولو دققت فيما يدور الآن من محاولات لتشكيل الحكومة الجديدة برئاسة هشام قنديل، ستجد ظلالا من عالم الطائفة والفئة والقبيلة، وخذ عندك تصريح رئيس نادى القضاة (النادى وليس المجلس الأعلى للقضاء) الذى يقول فيه ما معناه إن تغيير وزير العدل الحالى خط أحمر، ويحذر رئيس الجمهورية، بلغة تليق بزعيم طائفة أو فتوة حارة، من أنه لو تم الاقتراب من منصب وزير العدل الحالى سيكون للنادى وزعيمه وقفة أو كلام آخر.
وحين يأتى هذا الخطاب المغرق فى الفئوية من شخص يفترض أنه يمثل بوجه من الوجوه مهنة من أرقى وأقدس المهن، فيجب ألا نندهش أبدا من أنباء محاصرة العاملين فى وزارة البيئة لمنزل رئيس الحكومة المكلف للضغط عليه كى يبقى وزيرهم الحالى فى موقعه، أو أن يخرج نفر من سكان هذه المحافظة أو تلك لقطع الطريق دفاعا عن بقاء المحافظ.
ولو استسلمنا لهذا المنطق فإن مصر ليست دولة واحدة، بل مجموعة من الدويلات والشعوب، تمتد أفقيا ورأسيا، فهذه دويلة القضاء التى يقطنها العاملون بالسلك القضائى، وهنا دويلة البيئة وشعبها، وهلم جرا.
وواقع الأمر أن أول من اتبع هذا المنهج القبلى الفئوى كان المجلس العسكرى، حين أعلن بلا مواربة استقلاله الاقتصادى عن الدولة المصرية، حين تحدث أحد أعضائه وهو اللواء محمود نصر فى لقاء مع الإعلاميين منذ شهور قائلا عن الامبراطورية الاقتصادية للمجلس «هذه ليست أموال الدولة وإنما عرق وزارة الدفاع من عائد مشروعاتها».
وكان عضو المجلس العسكرى صاحب الريادة فى تحذير وترهيب كل من تسول له نفسه التفكير فى ضم هذه الامبراطورية للدولة حين قال «سنقاتل على مشروعاتنا وهذه معركة لن نتركها. العرق الذى ظللنا 30 سنة لن نتركه لأحد آخر يدمره، ولن نسمح للغير أيا كان بالاقتراب من مشروعات القوات المسلحة».
وعلى المنوال ذاته تم نسج نكتة الإعلان الدستورى المكمل قبل ساعات من وصول الرئيس الجديد للقصر والبدء فى ممارسة مهامه وصلاحياته، التى اختلست بليل.
ومن هذه الزاوية أيضا يمكن النظر إلى التغييرات الشاملة التى أجريت فى وزارة الداخلية استباقا لمغادرة الوزير الحالى موقعه، على الرغم من آن الكون لم يكن سيفنى لو أن الأمر تأجل لما بعد التشكيل الوزارى الجديد.
كما أنه لا يمكن النظر إلى الاحتكاكات والتحرشات الدائرة فى محيط كتابة الدستور القادم، إلا باعتبارها كذلك صراع حدود ومساحات بين الدولة المصرية ككل، وبين أطراف ترى فى نفسها دولة داخل الدولة أو فوقها، ينسحب ذلك على مؤسسات قائمة، وجماعات وفئات أيضا، تتعامل مع مصر وكأنها قارة كانت مجهولة وتم اكتشافها للتو.
وإذا كان ذلك متخيلا فى فترة السيولة السياسية التى عاشتها البلاد بلا رئيس بعد الثورة، فإنه لا يمكن تخيله وقد عرفت مصر أخيرا أول رئيس مدنى منتخب، اللهم إلا إذا كانت جاذبية ما يسمى بالدولة العميقة أكبر طاقة مغناطيسية من التطلع إلى التغيير والشوق إلى مستقبل أكثر اتساقا مع روح العصر وقيمه.