فى وقت سابق من هذا الشهر، وفى لقاء خاص مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وبعض مستشاريه الأمنيين، حذرت مجموعة من خبراء الشرق الأوسط وضباط المخابرات السابقين من قرب اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة. وقالوا إن الموقف يمكن أن ينفجر بتخريب مسجد على يد مستوطنين إسرائيليين، مثل ذلك الذى أحرق الثلاثاء قبل الماضى؛ أو بناء مستوطنة سكنية جديدة. وأيا ما كان الفتيل، فإن السبب الضمنى للاحتقان الذى تشهده الضفة الغربية يتمثل فى الإجماع على أن رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، وصل إلى طريق مسدود. ●●●
وتقوم استراتيجية عباس السياسية على مبدأ يرى أن التعاون الأمنى بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية يجعل إسرائيل تشعر بأنها أكثر أمنا ويلغى مبررها للاستمرار فى احتلال الضفة الغربية، ويمهد الطريق من ثم لقيام دولة فلسطينية. ومن المثير للسخرية أن كثيرا من الإسرائيليين يتمتعون، بفضل نجاح جهوده، بترف نسيان وجود الاحتلال نسيانا تاما.
وبفضل السلام الممول من الأمريكيين والأوروبيين تمكنت حكومة السيد عباس من الاستمرار فى الضفة الغربية، ووصل الإسرائيليون كذلك إلى الاعتقاد بأن بإمكانهم أن يستأثروا بكعكتهم. وقال أغلبية المشاركين فى استطلاع أجرى فى وقت سابق من هذا العام إن دولتهم يمكن أن تظل يهودية وديمقراطية دون التخلى عن أى جزء من الضفة الغربية. وسمحت أعوام من السلام والهدوء فى تل أبيب بخروج مئات الآلاف من الإسرائيليين إلى الشوارع الصيف الماضى للاحتجاج على ارتفاع أسعار الجبن، والإيجارات ودور الحضانة دون كلمة واحدة عن الفلسطينيين فى الضفة الغربية.
ولم تعد المسألة من بين اهتمامات إسرائيل الأمنية الأساسية. ولن يكون أمام السيد نتنياهو إلا الانتحار سياسيا أو التحلى استثنائيا بنظرة مستقبلية للابتعاد عن الوضع القائم الذى يرضى أغلبية كبيرة على ما يبدو.
●●●
فى المقابل، يرى الفلسطينيون قيادتهم اليوم وهى تخبط رأسها فى الحائط، على أمل أن يؤدى المزيد من حسن السلوك إلى قيام دولة مستقلة. ونتيجة لذلك، انتهى الجدل الذى ثار طويلا حول كيفية تحقيق التحرر الوطنى بالتهدئة مع إسرائيل أو مواجهتها. فلم يعد الفلسطينيون من كل الأطياف يتحدثون عن جعل الاحتلال الإسرائيلى أكثر كلفة أم لا، بل الحديث الآن عن كيف يتحقق ذلك. وخلال تسعينيات القرن الماضى، كان السيد عباس من المهندسين الأساسيين لعملية أوسلو للسلام التى وضعت التصور لاحتمال أن يؤدى انسحاب إسرائيلى على مراحل من الضفة الغربية إلى اتفاق للسلام الدائم (وإن كان من غير الضرورى قيام دولة فلسطينية). واليوم، ربما كان هو الوحيد الباقى على هذا الاعتقاد. وهو مضطر لتملق مطالب أولئك المطالبين بالمواجهة بتكرار تعهده بمواجهة إسرائيل بتفكيك السلطة الإسرائيلية أو رفض التفاوض إلا إذا جمدت إسرائيل بناء المستوطنات لا لشىء إلا ليتراجع عنها.
ومع اتساع الفجوة بين تصريحات الرئيس وأفعاله، اتسعت كذلك الفجوة بين سياساته ومشاعر الجماهير، وأدت إلى لجوء الحكومة إلى مزيد من القمع: تعذيب المعارضين السياسيين، إغلاق المواقع الإلكترونية والقبض على الصحفيين والمدونين الذين ينتقدون عباس. حتى المستشارين المقربين من السيد عباس يعترفون سرا بأنه معرض لأن يتحول إلى أنطوان لحد، قائد القوة المفوضة من إسرائيل أثناء احتلالها لجنوب لبنان، آخر. وقد اعترف المسئول الأول عن سياسات عباس، رئيس الوزراء غير المنتخب، سلام فياض، بما صار عليه الموقف بقوله: «أعتقد أننا سنخسر القضية، إن لم نكن قد خسرناها بالفعل». وصرح عباس نفسه بأن عملية السلام «أصابها العطب» وأن كل ما فعلته حكومته هو «تحسين وضع إسرائيل»، وأن هذه الأخيرة، التى حظيت بسنوات من التعاون غير المسبوق مع القوات الفلسطينية فى الضفة الغربية، ليس هناك ما يضطرها إلى الموافقة على أى تغيير.
لكن ليس لدى قوات الأمن الفلسطينية ما يدفعها للاعتقاد، هذه الأيام، بأن جهودها يمكن أن تخدم الأهداف الوطنية، ولا يمكن لإسرائيل أن تفترض أن السلطة الفلسطينية يمكنها تحقيق الأمن الدائم. والشهر الماضى، ومع عودة إطلاق النار إلى شوارع جنين، ودخول 1600 سجين فلسطينى فى إضراب عن الطعام للأسبوع الرابع، قال السيد عباس «لا يمكننى السيطرة على الموقف. إننى أخشى، لا سمح الله، أن ينهار نظام الأمن». ونجد صدى لهذا الشعور فى ملاحظات يوفال ديسكين، رئيس الأمن الإسرائيلى المتقاعد، عندما قال: «عندما تتركز أبخرة الغاز فى الجو بهذه الكثافة، فالسؤال الوحيد الذى يطرح نفسه هو متى ستأتى الشرارة التى تشعله».
●●●
إن السبب الجذرى لهذه الحالة من عدم الاستقرار هو أن الفلسطينيين فقدوا أى أمل فى أن تمنحهم إسرائيل دولة. وكل محاولة من جانب الفلسطينيين لاستخدام القليل الذى يملكونه من إمكانيات إما تفشل أو يثبت عدم جدواها. فمقاطعة العمل فى المستوطنات وكذلك منتجاتها لم تحظ بدعم جماهيرى، ولن توقف تنامى المستوطنات.
فى ظل هذا التعثر وفقدان الأمل يكون الخيار الثانى المطروح هو المواجهة المسلحة. وعلى الرغم من اللا مبالاة السائدة بين الفلسطينيين، واعتماد مئات الآلاف ماليا على استمرار وجود السلطة الفلسطينية، فإن هناك عددا كبيرا يمكن أن يرحب بالتصعيد، خاصة الكثير من مؤيدى حماس، الذين يرون أن العنف كان الوسيلة الأكثر فاعلية لإجبار إسرائيل والمجتمع الدولى على التحرك.
فهم يعتقدون أن الصواريخ وقذائف المولوتوف والاحتجاجات الجماهيرية هى التى دفعت إسرائيل للتوقيع على اتفاقيات أوسلو فى عام 1993، وأن الضربات المميتة التى تلقتها القوات الإسرائيلية فى لبنان هى التى اضطرت إسرائيل للانسحاب فى عام 2000، وأن الدماء التى سالت أثناء الانتفاضة الثانية هى التى جعلت جورج بوش يعلن تأييده للدولة الفلسطينية وحثت المجتمع الدولى على تقديم مبادرة السلام العربية، ومبادرة جنيف، وخارطة الطريق لتحقيق السلام فى الشرق الأوسط. كما أنهم على قناعة بأن السلاح هو الذى اضطر آرييل شارون، رئيس الوزراء حينها، إلى إجلاء المستوطنين والقوات من غزة فى 2005.
وبالنسبة للزعماء الفلسطينيين الأكثر تشددا، الذين لم يؤمنوا أبدا بعملية السلام، كان الدرس واضحا، كما أخبرنى موسى أبو مرزوق، نائب رئيس المكتب السياسى لمنظمة حماس: «لن يتحرر شبر واحد من الأرض طالما شعر الإسرائيليون بأن السيطرة عليها لن تكلفهم الكثير». ويرى ماتى شتاينبرج، كبير مستشارى قيادات الأمن الإسرائيليين السابق، فى السيد عباس أكثر القيادات الفلسطينية التى عرفها التزاما ورفضا للعنف ويحذر من التسليم بما يقول. وقال ماتى إن «الوسط فى إسرائيل يدور فى حلقة مفرغة، ويرى من غير الممكن تحقيق السلام فى ظل العنف، وعندما يختفى العنف لن يكون هناك سبب لإقرار السلام».
●●●
وسيذكر التاريخ للسيد عباس أنه تولى الحكم فى أكثر مراحل هذه الحلقة طهارة، لكنه مهد الطريق لمرحلة أكثر قبحا. فى غضون ذلك، لا تقف حماس مكتوفة اليدين. وقد أخبرنى باسم نعيم، وزير صحة حماس، عندما قابلته فى غزة نوفمبر الماضى أنه «كان أمام إسرائيل فرصة ذهبية لتوقيع معاهدة مع عباس. لكن الفرصة فاتت بالفعل. ولن تتاح لها مرة أخرى».