جاءت نتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية صادمة لمجتمع الفيس بوك. فبالرغم من أسابيع من التناحر المتبادل بين الفريقين فى العالم الافتراضى، إلا أن الانطباع السائد كان أن فريق «لا» له الغلبة العددية والأكثر نشاطا. ولذلك عندما تم الإعلان عن نتيجة الاستفتاء كانت الدهشة كبيرة نظرا للفارق الكبير بين نسبة كل من المؤيدين والمعارضين. وإن كنا لا نرى خاسرا أو فائزا فى هذا السياق على اعتبار أن الكل فائز فى هذا العرس الديمقراطى، إلا أن قدرا من التأمل فى طبيعة ودلالات ما حدث مطلوب لاستخلاص الدروس وتدارك الأخطاء استعدادا للانتخابات المقبلة التى يرجو الجميع أن تكون ممثلة للشعب المصرى بجميع طوائفه واتجاهاته. بداية يجب الاعتراف بأن الحياة السياسية المشوهة التى عشناها طلية ما يزيد على الثلاثين عاما قد تركت بصماتها على الخطاب السياسى للمصريين. يتضح هذا من متابعة النقاشات التى دارت بين المؤيدين والمعارضين للتعديلات الدستورية حيث كانت مفردات المؤامرة والتخوين هى الأكثر تداولا عند وصف الرأى الآخر وكأن الاختلاف ليس سنة من سنن الحياة السياسية السليمة. وفى خضم الجدل الدائر،لم يخل الأمر من وقوع هذه القوى فى تناقضات واضحة. على سبيل المثال ارتأت القوى السياسية غير المندرجة حتى الآن فى أحزاب تعبر عنها أن الاتفاق حول الموقف من التعديلات الدستورية بين الإخوان والحزب الوطنى بالمثير للشك وغير المقبول، متناسية أنها اتفقت هى الأخرى ونسقت مع الأحزاب الكرتونية التى أفسدت الحياة السياسية تماما كما أفسدها الحزب الوطنى، بل وربما كانت أكثر ضررا لما أضفته من شرعية على نظام فاسد مستبد. من جهتها فإن جماعة الإخوان بالرغم من إنكارها أنها استخدمت الدين لحشد الناس للتصويت بنعم، إلا أنها لم تفعل الكثير لتميز موقفها عن جماعات السلفيين الذين اختزلوا القضية فى: إما أن تكون مع أو ضد الإسلام. وتناسى الجميع أن الكل غايته واحدة وإن اختلف الفريقان فى السبل والوسائل لتحقيقها. من مخلفات النظام السابق أيضا استخدام «الفزاعات» لتوجيه الرأى العام وجهة معينة، فمن جهة شهدنا عودة لاستخدام «الفزاغة الإسلامية» لحث الناخبين على رفض التعديلات، وكأن ما لم يعد محظورا فى الواقع ظل محظورا فى فكر الكثير من المثقفين رغم الحديث المتكرر عن ضرورة الاستيعاب لا الإقصاء. وبدا استخدام هذه الفزاعة جليا فى موقف الكنائس التى ارتأت من صعود التيارات الإسلامية تهديدا ينبغى التعامل معه. من جهة أخرى، كانت هناك «فزاعة الفوضى» والتحذير من أن عدم الموافقة على التعديلات قد يدخل مصر فى نفق مظلم يصعب الخروج منه. المحزن أن كلا من التوجهين كان يراهن على عدم وعى المواطن ومحاولة التأثير على عواطفه لا على عقله وكأن لسان حالهم يردد ادعاء عدم استعداد المصريين للديمقراطية. هذا اللعب على العواطف لم يكن قاصرا على استخدام الفزاعات فقط، وإنما أيضا من خلال تكرار مقولات من قبيل أن «نعم» تعنى خيانة دم الشهداء وكأن الشهداء لو كانوا معنا اليوم كانوا سيتفقون على رأى واحد. يمكننا انطلاقا من هذه التشوهات محاولة تفسير ما حدث بعيدا عن التفسيرات التى لم تعد مقبولة مثل تلك التى تتحدث عن دور عامل الدين. عدم القبول لهذه التفسيرات لا ينبع فقط من نسبة المشاركة والتصويت غير المسبوقة، بل أيضا لما تنطوى عليه من استخفاف بوعى المواطن المصرى الذى اصطف بالساعات ليدلى بصوته، وتردد ضمنا ادعاء عدم استعداد المصريين للديمقراطية. ولنتساءل من إجمالى 14 مليون ناخب قالوا نعم، كم منهم ذهب طمعا فى الجنة أو للإبقاء على المادة الثانية من دستور سقط بالفعل أو على أسوأ الفروض سيسقط خلال ستة أشهر؟ وليست القضية أيضا الاختيار بين الاستقرار والفوضى وإلا كان المصريون حسموا أمرهم لصالح الاستقرار وخرجوا فى مليونيات تدعو لاستمرار الرئيس السابق. إنما كانت القضية هى على أحسن الفروض اختيار بين سيئين أحدهما معالم طريقه أكثر وضوحا من الآخر. وقد يكون السبب أيضا ما بدا عليه موقف الرفض من وجهة نظر البعض من تعنت وافتقاد للمرونة التى قد تتطلبها اللحظة التى يمر بها الوطن. وتعزز هذا الانطباع بعد اتخاذ قرار تأجيل الانتخابات البرلمانية إلى سبتمبر وتعهد الإخوان بأنهم لن يتقدموا بمرشح للرئاسة ولن ينافسوا على أكثر من 30 40 % من مقاعد البرلمان بل وموافقتهم على قائمة وطنية موحدة. برز التعنت أيضا فى إصرار المعارضين غير المفسر على تجاهل المادة 189 مكرر من التعديلات المقترحة التى تلزم المجلس النيابى القادم فى أول جلسة له بتشكيل لجنة تأسيسية لوضع دستور جديد للبلاد. النقطة الأخرى الأكثر أهمية فى تفسير ما حدث هى مجال عمل كل من المعسكرين. بينما كان الشارع بكل طبقاته هو مجال عمل الداعين إلى قبول التعديلات الدستورية، كان المعسكر الآخر معسكر الرافضين أكثر انخراطا فى الإعلام وأكثر اهتماما بصفحات التواصل الاجتماعى على الإنترنت. هذه المنتديات، على الرغم من أهميتها، إلا أنها أضفت طابعا نخبويا على معسكر الرفض إذا ما وضعنا فى الاعتبار أن غالبية المصريين من غير مستخدمى الانترنت. وتخيل أنصار هذا الفريق أن ظهور عدد من مشاهير الفن والأعمال فى فيلم قصير يدعون فيه الناس إلى رفض التعديلات كافيا لإقناع رجل الشارع. ويحضرنى فى هذا السياق تعليق أحد أصدقائى الأمريكيين على هذا الفيديو حيث قال: «إنه معد جيدا بدرجة مبهرة من الناحية الفنية والتقنية ولكن انطباعى أن الحجة الأساسية للرفض هى اكتساب مزيد من الوقت للأحزاب الجديدة، أى أنه موقف تكتيكى وليس مبنيا على مبدأ، ولذلك من الصعب أن تشعر بالتحمس له». انخراط هذا المعسكر فى العالم الافتراضى جعله منقطعا إلى حد ما عن الواقع، بدليل ما طالب به البعض من إلغاء الاستفتاء بناء على نتائج استطلاعات للرأى أجرتها بعض المواقع على الانترنت ومنها موقع رئاسة الوزراء حيث جاءت النتائج فى صالح الرافضين بنسبة كبيرة. لهذا فإن على هذا المعسكر وما يضمه من مجموعات سياسية وشبابية، إن كان بالفعل يريد المنافسة فى الحياة السياسية، أن ينتقل من عالمه الافتراضى إلى أرض الواقع. كما ينبغى عليه أن يثق فى أن الضامن الحقيقى للثورة يتمثل فى هى هذه الملايين التى خرجت تشارك فى صنع مستقبل بلادها، والتى تقبل من يمثلها لا من يتصرف كوصى عليها.