كان عجز اللجنة العليا فى الكونجرس عن التوصل إلى اتفاق بشأن الميزانية انعكاسا محزنا للاستقطاب السائد فى الولاياتالمتحدة اليوم. ولكن هذا الفشل له جذور تتجاوز الأفراد المكلفين بإعداد خطة لتخفيض العجز، وتدخل فى صميم طبيعة النظام السياسى. وفى حين كان فشل هذه اللجنة مخزيا، إلا أنها احتوت على بذور فكرة قد تقدم لنا وسيلة للخروج من الجمود. ويفخر الأمريكيون بدستور يقيد السلطة التنفيذية من خلال سلسلة من الضوابط والتوازنات.لكن هذه الضوابط تغيرت. والآن أمريكا تعيش الديمقراطية المقيدة بحق النقض. وعندما يتم الجمع بين هذا النظام والأحزاب المؤدلجة، التى يعتبر أحدها أن سد الثغرات الضريبية يمثل زيادة غير مقبولة للضرائب، تكون النتيجة هى الشلل. وتتضح جميع مشكلات النظام الأمريكى بجلاء عند مقارنته مع نظام وستمنستر البريطانى الكلاسيكى: البرلمانى، مع التمثيل النسبى، بلا فيدرالية أو لا مركزية، وليس له دستور مكتوب أو مراجعة قضائية. فى ظل هذا النظام، تكون الحكومات عادة مدعومة من قبل اغلبية تشريعية قوية. وائتلاف الحكومة الحالية أمر غير معتاد فى المملكة المتحدة، التى تعطى عادة للحزب الحاكم أغلبية قوية فى البرلمان. ويمكن للأغلبية البسيطة زائد واحد فى مجلس العموم الغاء أى قانون مطروح، وهو السبب فى أنه كان يشار إليها فى بعض الأحيان على أنها ديكتاتورية ديمقراطية.
وعلى العكس من ذلك، يقسم النظام الأمريكى السلطة بين الرئيس والكونجرس بمجلسيه؛ وينقل السلطة إلى الولايات والحكومات المحلية، ويسمح للمحاكم بإلغاء التشريعات على أسس دستورية. وتم تصميم هذا النظام عمدا لوضع العراقيل فى طريق إقامة حكومة حاسمة، نتيجة لثقافة سياسية تتشكك بقوة فى السلطة المركزية.
وتتضح ميزة النظام البريطانى الذى يتسم بقلة القيود عندما يتعلق الأمر بتمرير الميزانيات. حيث تعد الميزانية على يد وزير الخزانة، الذين يجرى كمسئول تنفيذى التوازنات الصعبة بين الإنفاق والضرائب. يتم تمرير هذه الميزانية من قبل البرلمان، مع تعديل طفيف، بعد أسبوع أو اثنين من اقتراح الحكومة.
ولكن فى النظام الأمريكى، يعلن الرئيس عن الميزانية فى بداية الدورة المالية، وهى وثيقة طموحة أكثر منها واقع سياسى. ويضع دستور الولاياتالمتحدة سلطة الإنفاق فى يد الكونجرس بحزم، بل يستخدم جميع أعضاء الكونجرس، وعددهم 535 عضوا حق النقض المحتمل لانتزاع تنازلات. ولا تصدر الموازنة التى تصدر بعد أشهر من ضغط جماعات المصالح، عن خطة حكومية متسقة، ولكن عن المساومات بين المشرعين الأفراد، الذين يجدون أنه من الأسهل دائما تحقيق توافق فى الآراء من خلال زيادة الإنفاق مقابل خفض الضرائب. وبالتالى الانحياز الدائم نحو العجز.
وبالإضافة إلى الضوابط والتوازنات التى يقضى بها الدستور، قدم الكونجرس مجموعة جديدة من الفرص للمشرعين تسمح باستخدام حق الفيتو فى ابتزاز النظام، كما فى حالة جواز أن يفرض مائة عضو من مجلس الشيوخ تعيينات فى السلطة التنفيذية. ونشهد اليوم أحد الأمثلة الصارخة على ذلك. فقد أرادت إدارة أوباما تعيين مايكل ماكفول سفيرا لروسيا، ولكن لجنة العلاقات الخارجية وأجلت القرار إلى أجل غير مسمى بسبب اعتراضات أعضاء جمهوريين لم تسمهم فى مجلس الشيوخ. وكان ماكفول، الأستاذ فى جامعة ستانفورد (وهو صديق قديم أيضا) من كبار مسئولى الشئون الروسية والآسيوية فى مجلس الأمن القومى على مدى السنوات الثلاث الماضية، ويعتبره كثيرون حتى من جانب الجمهوريين جديرا بالوظيفة. وذكرت مجلة السياسة الخارجية أن من بين الحيثيات رغبة عضو فى مجلس الشيوخ أن تتولى الحكومة الفيدرالية بناء أحد المرافق فى ولايته. نتيجة لذلك، فإن الولاياتالمتحدة قد لا يكون لها سفير فى موسكو فى مارس المقبل عندما يصوت الروس لاختيار رئيس جديد.
إذا أردنا الخروج من حالة الشلل الحالية، فلسنا بحاجة إلى قيادة قوية فقط، ولكن إلى تغييرات فى القواعد المؤسسية. فإذا لم تكن التعديلات الدستورية مطروحة حاليا، فهناك قائمة من الإصلاحات التى يمكن أن تضطلع بها الولاياتالمتحدة للحد من عدد أسباب النقض، وتبسيط عملية صنع القرار. وأحد هذه الإصلاحات الحد من سيطرة مجلس الشيوخ، والثانى هو التراجع عن تعطيل التشريعات الروتينية، أما الثالث فهو وضع قاعدة من شأنها منع الابتزاز التشريعى عبر تقديم تعديلات تشريعية غير مناسبة.
●●●
لكن أهم تغيير ممكن هو تحويل عملية وضع الميزانية إلى ما يشبه نظام وستمنستر. حيث يتم صياغة الميزانيات، كما فى حالة اللجنة العليا الفاشلة، من قبل مجموعة صغيرة للغاية من المشرعين. وعلى خلاف اللجنة الحزبية الحالية، سوف يتعين تشكيل اللجنة بعدد من التكنوقراط عبر هيئة غير حزبية مثل مكتب الميزانية فى الكونجرس، تكون معزولة عن ضغوط جماعات المصالح التى تؤثر على المشرعين الحاليين. ويتم طرح الموازنة أمام الكونجرس للتصويت بلا أو نعم بدون تعديل. وقد تم بالفعل استخدام هذا الإجراء بنجاح للالتفاف على العرقلة التى تسببها مجموعات المصالح للتشريعات التجارية السريعة، واللجنة غير الحزبية التى حددت القواعد العسكرية التى ينبغى إغلاقها. ولا يحظى هذا الاقتراح بفرصة للقبول فى ظل المناخ الحالى من الاستقطاب.
ومؤخرا، وصفت نيوت جينجريتش، إحدى المتنافسين للفوز بالترشح لرئاسة الحزب الجمهورى، مكتب الموازنة فى الكونجرس بأنه مؤسسة «الاشتراكية». ولكن مشكلتنا المالية دون معالجة من الضخامة بحيث إن شيئا من هذا القبيل يبدو أساسيا، بينما يواصل اقتصادنا الركود. ومن المستبعد أن يكون لدى المشرعين الحاليين استعداد للتخلى عن حق النقض فى وقت قريب. وهذا هو السبب فى أن الإصلاح السياسى يجب أن يكون مدفوعا أولا وقبل كل شىء بتعبئة القاعدة الشعبية.