صباح كل جمعة، أذهب إلى مقهى زهرة البستان، وفى أثناء مرورى، أتفادى الوقوف أمام مقهى ريش، أو أنظر إليه فى حسرة، لأننى أتذكره قبل أن يفقد مكانته فى الثمانينيات، ويتحول إلى مكان سياحى، وأتذكر كيف التجأنا، نحن الشباب، أيامها، إلى زهرة البستان، وحولناها من مقهى عمال، إلى مقهى مثقفين، لأن ريش التى كانت مقصد المثقفين المصريين والعرب، أصبحت مقصد السياح من إسرائيل، روى لى صديقاى ناجى الشناوى ومكاوى سعيد، كيف لجأ نجيب محفوظ إلى أماكن أخرى بعد أن ضايقته ريش، وضغطت عليه، هذه الجمعة بالتحديد، رأيت نجيب محفوظ فى كل الأماكن، رأيته جالسا فى المقاهى، وخارجا من الشوارع، وداخلا فى الأزقة، وماشيا على الكورنيش، وخلفه هدى الجميلة وشيرين تحاولان أن تمسكا يده التى تتشبث بالمجلات والصحف. كان كعادته بغير ربطة عنق، بغير كاسكيت، بغير ماكياج، ولكنه على الرغم من بساطته، كان يظهر مثل شخص حزين، يفر من مريديه، الذين يلعن بعضهم الثورة لأنها عطلت الاحتفال بذكراه، نجيب محفوظ أكثر العارفين بمريديه، خاصة مريديه الأقرب، صحيح أنه كان بحاجة إليهم ليواجه عزلة شيخوخته، وصحيح أيضا أنهم كانوا بحاجة إليه ليواجهوا حمأة مصالحهم، لكنك إذا اختلست النظر إلى عيون نجيب، سترى ذلك البريق الذى يكشف عن امتنانه لجائزة نوبل، احذر أن تنظر إلى عينيه مباشرة، لأنه سيخفيه، سيخفى الامتنان، فهو حريص ألا يفضح أو يجرح، خاصة أن امتنان نجيب لم يكن إلا لسبب واحد، وهو أنها، أى الجائزة، أعانته على شيخوخته، فلولاها لتركه الجميع، حتى تنشف عظامه تحت الشمس، وتتفتت تحت البرد، وأنها، أى الجائزة، أعانت مريديه على أن يحيطوه ليصطادوا زواره النافعين من الغرباء والأجانب.
الغريب أن الذين أحاطوا نجيب، وبالمصادفة، هم هم الذين أحاطوا الأستاذ محمد حسنين هيكل، كأن ذيوع صيت الأستاذ عند الغربيين يشبه نوبل عند نجيب محفوظ، ويغرى بهما المريدين، التاريخ الشخصى لنجيب محفوظ يدل على حفاوته وآماله فى أن يترأسنا أشخاص مدنيون، ليسوا زعماء بالضرورة، وليسوا فاسدين خونة بالطبع، ليسوا عبدالناصر، وليسوا مبارك، والتاريخ الشخصى لبعض مريديه يدل على حفاوتهم الدائمة بكل حاكم، وعلى حفاوتهم الخاصة بحكم الجنرالات، مريدو نجيب محفوظ هم أنفسهم مريدو هيكل، وسعد زغلول هو السراب الضائع عند نجيب، وعبدالناصر هو السراب الضائع عند هيكل.
والمريدون انحدروا بسرابهم الضائع إلى مستوى مبارك والذين معه، مبارك والذين بعده، مازال نجيب يعتقد أن مصر تحتاج سعد الثانى، أكثر مما تحتاج ناصر الثانى، مصر التى تريد أن تخلع ملابسها الرسمية، البدلة الكاكية، والحذاء الطويل الرقبة، والاستبداد، وضيق الأفق، تريد أيضا أن تخلع الجلباب الأبيض واللحية والبرقع والطرحة واليشمك، وتستمتع ببعض حيويتها، تستمتع بحريتها، عندما سيذهب نجيب إلى الميدان، ويعاود الجلوس فى كافيتريا على بابا إن وجدها، سيومئ إلى الشباب أن يقتربوا، وسوف يقول للشخص الواقف إلى جواره، الذى ربما يكون إسراء عبدالفتاح، أو حاتم تليمة، أو مينا دانيال، أو محمد محيى، أو علاء سيف الإسلام عبدالفتاح، سيقول نجيب: أيها الواقف إلى جوارى، إننى أحب هؤلاء الشباب، وأعذرهم، هم يريدون أن يوقدوا شموعهم فى الحجرة المغلقة، ليتهم يعرفون أن الحجرة مليئة بثانى أكسيد الكربون، ليتهم يعرفون أن المشكلة ليست فى الشموع، إنها فى الغازات، والجو الذى يطفئ الشموع.
كان أحمد هاشم الشريف أحد أجمل الجواسيس على أفكار نجيب، كان ينقلها بأمانة ودون غرض، ومثله سوف أحاول أن أنقلها بأمانة ودون غرض، ذات مرة قال نجيب: أيها الشباب، أوصيكم بالأخلاق أولا، وبالعلم ثانيا، لأن العلم أسهل من الأخلاق، العلم ميسور فى الكتب والمدارس والمعاهد، والأخلاق مخبوءة خلف الكتب والمدارس والمعاهد، مخبوءة حتى خلف السماء، العلم كسب وكسبٌ ثم إرادة، والأخلاق إرادة وإرادة ثم كسب، وقوة الإرادة أصعب من قوة الكسب، لذا فإن قوة الإرادة هى التى تجعل الأخلاق صعبة، بعض الأخلاق سهل، مثل محاباة الأقارب والأصدقاء، مثل تعطيل دفعة خريجين وتوقيفهم من أجل تجاوزهم إلى الدفعة التالية، التى تضم ابن الضابط الكبير، سألنى نجيب، هل تعرفه، قلت نعم، إنه محمد ممدوح يحيى شاهين، الذى قام بدور السيد أحمد عبدالجواد فى بين القصرين وقصر الشوق، والمأذون الشرعى فى فيلم المجلس البلدى، وعشماوى فى فيلم عسكر وحرامية، وعضو فرقة المهرجين الأشرار فى فيلم الثورة المسروقة.
قال لى نجيب، كفى كفى، ثم قال، الأخلاق السهلة حركة من أعلى إلى أسفل، حركة ضد الأخلاق ذاتها، وضد الجماعة والمجتمع والناس، الأخلاق الصعبة تستطيع أن تفيد كل من يقترب منها، يسكت نجيب، ويشرب كوب ماء، فيردد أحمد هاشم الشريف، الأخلاق الصعبة تستطيع أن تفيد كل من يقترب منها، نجيب ينظر باتجاه النيل، ويشير بأصابعه كلها، ويقول: هل تسألوننى ما العمل؟ لست حائرا، أقول لكم، العمل أن ننظر إلى الأمام، تسألوننى، وماذا عن تراث الماضى، أقول لكم، اتركوه للتاريخ يحاكمه، تسألوننى، وكيف يحاكمه، أقول لكم، بالقضاء الإنسانى وليس بالقضاء والقدر، تسألوننى، وإذا كان القضاء قد فسد أو يوشك أن يفسد، أقول لكم، طهّروه برؤوسكم وفؤوسكم، لا تيأسوا فأنتم الشباب، الطاقة والحلم والقدرة والتغيير، تسألوننى هل ضاع الحاضر يا سيدنا، أقول لكم، ضاع إلى حد كبير، تسألوننى، لماذا، أقول لكم، انظروا إلى طعامكم وثيابكم ومدارسكم وجامعاتكم، فكلها لا يمكن أن تكون مصانع للمستقبل، إنها إما خربة، وإما خربة، تسألوننى، وما العمل، أقول لكم، برؤوسكم وفؤوسكم، بعدها يتعب نجيب، ويفكر فى الانصراف، لا يريد الذهاب إلى منزله فى الجانب الآخر من النيل، وبالطبع لن يذهب إلى ريش مثلما كان يفعل، خاصة بعدما سمع أن البدين صاحب ريش يحتقر البسطاء ويطردهم، ونجيب أحدهم.
بالطبع أيضا لن يذهب إلى الحرافيش، فالحرافيش مات أغلبهم، أنه يبحث عن إبراهيم منصور ولا يجده، عن عادل كامل وعبدالحميد جودة السحار وتوفيق الحكيم وصلاح أبوسيف وأحمد مظهر وأم كلثوم، يبحث حتى عن السادات، ولا يجد أحدا، يتذكر أن بطل ديستوفسكى المحكوم عليه بالإعدام، لن يفكر فى شىء، سوى فى تلك الذبابة التى تقف على ملابس الحارس، يتابع حركتها حتى يهرب من التفكير فى المقصلة التى تنتظره، بطل ديستوفسكى لا يحق له أن يفكر بالحياة، فهو سيموت بعد قليل، إنه يفكر فى الذبابة، الدعاة أيضا، هؤلاء الدعاة أيضا، لا يحق لهم أن يفكروا بالحياة، الدعاة الذين يطاردوننا، وينظرون فى وجوه نسائنا، ويتحدثون فقط فى الأمور الصغيرة الشبيهة بالذبابة، الحجاب والنقاب واللحية والشارب والقدم اليمنى واليسرى وأحوال الطمث، إنهم يعتقدون أننا سنموت بعد قليل، يعتقدون أننا متنا فعلا، أننا شبعنا موتا، الفارق بين هؤلاء الدعاة وبطل ديستوفسكى، أن البطل لم يكن انتهازيا، والدعاة انتهازيون، أمس واليوم وغدا، فهم لا يريدون إغضاب السلطات بالحديث عن الأمور المهمة، الأمور المزعجة.
يصمت نجيب ويتنحنح، ثم يقول، والمثقفون، يصمت ويتنحنح ويضيف، ويلى من المثقفين، فنقول له، ما لهم، يقول، هؤلاء الذين يصرفون جهودهم للصراع ضد الدعاة باسم التنوير والحداثة، هم أيضا لا يريدون إغضاب السلطات بالحديث عن الأمور المهمة، الأمور المزعجة، بعد قليل أكمل نجيب، طبعا تجريف التعليم وغلبة الأمية وتجريف الثقافة وانهيارها أدى إلى نكوص الأديب وتخاذله، فبعد أن كان يعتمد على المثقف العام الذى اختفى، أصبح يعتمد على السلطة، وفى أنظمة الحكم الشمولى، تزعم السلطة أنها الأب الحنون، أنها الأرض والسماء، أنها الجنة والجحيم، وإذا صدقها المفكر والكاتب والشاعر، سيجد نفسه دون وعى منه، سيجد نفسه ينتفض مثل زنبرك، ويقف على قدميه، ويوافق الحاكم وينافقه، فإذا حارب الحاكم الدين، رافقه المفكر وحارب الدين معه، لابد أن نسأل أنفسنا ماذا نريد، وإذا أجبنا بأننا نريد حب المعرفة وتقديس العمل والنظافة واحترام الآخر بديانته ولونه وعرقه والتعايش معه، واحترام حقوق كل إنسان، والسعى إلى تحقيق سبل العدالة الاجتماعية والتضامن البشرى، وإذا وجدنا أن هذه المعانى جميعا هى مما يحققه الدين، فإننا سنكتشف أن المعركة إذن ليست مع الدين، على الأقل الآن، على الأقل هنا، هل نؤجل اعتراضنا على الدين، أم نعترض عليه فى أغراض أخرى، أم أن المعركة ستكون مع رجال الدين وكهنته والأوصياء عليه، يقول نجيب، اعذرونى إذا كنت لا أحب التأجيل، اعذرونى إذا كنت أرتجف، وقبل أن نسأله عما يقصد، تركنا واختفى، وهرب من فتوة العطوف، ومن منصور باهى، والزعبلاوى، ومحجوب عبدالدايم، ورمى الصحف والمجلات التى كان يحملها، ورمى حتى رائحته الشخصية وعلبة سجائره، وهرب من فاروق فلوكس لأن جابر عصفور يشبهه، ومن عادل إمام لأن صلاح عيسى يذكره به، وهرب من كل المثقفين، أحببت هروبه، سعيت خلفه لأرافقه، ذهبت إلى المقطم وقصر النيل وشبرد، فلم أجده، إلا أننى فى كل هذه الأماكن رأيته فى عيون بعض مريديه، فتحاشيتهم ولم أقترب، لأننى خفت من سواد عيونهم، ومن أحذيتهم العسكرية التى لا يراها أحد.
خرجت إلى شارع قصر العينى، ثم انحرفت إلى شارع حسين حجازى، كنت أعرف أن نجيب قد أحب الكابتن حسين حجازى، الغريب أننى رأيته هناك، يمشى وحيدا فى اتجاه مجلس الوزراء، كان يحاول أن يهرول، لولا أنه رأى شيرين فى البلكونة، ولولا تلك العصا التى كانت تعطله، من أين أتى بهذه العصا، إنه يطارد الوزراء، ويهش بها عليهم، ويهتف، أيها الوزراء، كان الفراغ يحيطه ويردد صدى هتافه، أيها الوزراء، النظام الذى تعملون تحت مظلته، هل تعلمون أنه أيضا نظام ثابت وشمولى، وأنه يحتاج إلى وزير منفذ، وزير أداة، وزير هزأة، لا إلمام له بالسياسة، ولا بالثقافة، وزير الزمن الماضى، كان يحب لصراعاته أن تتم فى الشارع، وفى الصحافة، وفى البرلمان، كان خطيبا ومتحدثا ولبقا وصاحب ثقافة موسوعية، وصاحب خيال وذوق، ذوقه بمقاس الوطن، وخياله بمقاس العالم، أما أنتم، فواحدكم يعجز عن الوقوف، وإذا وقف فعلى ساق واحدة، وربما على عكاز، كلكم محدود، كلكم طالب صيد، ولما سكت نجيب، أكملت كلامه، كلكم عماد وأسامة وفايزة وعلى وعصام، فنظر ناحيتى وتجاهلنى وقال، ثقافة وزير زمن الاستعمار، وزير الماضى، كانت عامة بالضرورة، وإلا ضاع منه مستقبله، سألت نفسى لماذا يبدو الأستاذ حزينا جدا هكذا، فنظر ناحيتى، وأجابنى، بسبب انتهازية الجيل الجديد، قلت، جيل الثورة، قال نعم جيل الثورة، بعضهم انتهازيون، قلت يا أبانا، الأفضل أن تحدثنا عن انتهازية الجيل القديم، جيل الأحزاب والأساتذة، وهى انتهازية أشد وأعتى، فرك الأستاذ يديه، وقال، الجيل القديم قطعة من الماضى، سقطت، أو ستسقط، إنه قشرة موازييك تعفنت، والجيل الجديد هو الأمل، ثم أحاطنى، ووضع الحاضر على يمينى، والماضى على يسارى، وبينهما وضع التخلف والاحتلال، وشرح رؤيته، إن الاحتلال وجد دائما زعماء يقنعون الناس بخطورته، وضرورة تحديه، لكن التخلف وهو الأخطر، مازال محروما من هؤلاء الزعماء القادرين على إقناع الناس بخطورته، وضرورة تحديه، سألته ثانية عن الشباب، هل يمكن أن يفشلوا يا أبى، فقال بأسى، كل الشباب عمالقة، ينقصهم فقط البعد التاريخى والمناخ الملائم.
ولما ظهر العمالقة وغلبت ريحهم، أحيطوا بكبار أقزام، وهذا ما يخيفنى. كنا قد خرجنا من شارع حسين حجازى، واقتربنا من وزارة الداخلية، سمع نجيب اسما يتردد، اللواء رفعت قمصان، سألنى، من هذا، قلت له، لقد حصل على وسامين بعد انتخابات 2005، وانتخابات 2010، سألنى نجيب، وسام النيل، قلت، لا وسام مبارك، ولما دعته قرنفلة صاحبة الكرنك لزيارة مقهاها، وعدها بذلك بعد حصوله على وسام 2011، سألنى نجيب، وسام النيل، قلت، لا لا وسام مبارك، تذكر نجيب أسماء يعرفها، اسماعيل الشيخ وزينب دياب وحلمى حمادة وخالد صفوان، وعاد يقول لنفسه، ولما ظهر الشباب العمالقة، وغلبت ريحهم، أحيطوا بكبار أقزام، وهذا ما يخيفنى، هذا ما يخيفنى، هذا ما يخيفنى، هذا ما، هذا ما، وفجأة اكتشفت أننى أقف وحيدا أمام زهرة البستان، وصاحب ريش يراقبنى، ويحرض أنصاره ضدى، وأنا أصرخ، الحقنى يا عم نجيب، الحقنى يا عم نجيب.