يرفض كتاب بيتر بينارت الجديد «أزمة الصهيونية» استغلال فكرة الضحية اليهودية لتبرير سيطرة إسرائيل على الفلسطينيين، ويؤكد أن القضية الحقيقية بالنسبة لليهود اليوم ليست تحدى الضعف، ولكن متطلبات القوة. فكتب «يطلب منا تأييد حكاية الضحية التى تتغافل عن القضية اليهودية الرئيسية فى عصرنا: قضية ممارسة القوة اليهودية على نحو أخلاقى». ومنذ 45 عاما، تجرى ممارسة تلك القوة على ملايين الفلسطينيين الذين لا يتمتعون بأية حقوق للمواطنة، فضلا عن ممارسة كل أشكال الإذلال لشعب محتل.
وبينارت، وهو صحفى ليبرالى بارز، محق فى تغيير هذا التعبير المجازى الخادع عن الضحية. وهذا ليس إعادة نظر فيما جرى عام 1938، أو حتى 1967. فإسرائيل اليوم قوية، تتمتع باقتصاد نابض بالحياة وهى الدولة الوحيدة المسلحة نوويا فى الشرق الأوسط. كما أن حليفتها الثابتة، الولاياتالمتحدة، موطن للجالية اليهودية التى لم تكن فى أى وقت أكثر منها الآن تكاملا أو نفوذا. فضلا عن أن الدول العربية المضطربة منشغلة بتجديد نفسها، لا إسرائيل: بينما تتأرجح سوريا، حليف ايران الرئيسى فى المنطقة، على حافة الهاوية.
●●●
غير أن التهديدات مازالت قائمة، بطبيعة الحال. ولم تختف نبرة الإقصاء، التى ظهرت منذ عام 1948، فى الفكر الفلسطينى. وتتغلغل معاداة السامية بين العرب، على الرغم من أنها ليس محل جدل فى تونس على الأقل. ولدى حزب الله وحماس الصواريخ والقذائف. كما أن ايران لديها برنامج تسلح نووى متوقف. ويمكن للارهابيين ضرب نيودلهى أو تبليسى.
غير أن الخطر الأكبر على إسرائيل هو أن تهدر فرص القوة أو التفوق العسكرى (على إيران) من خلال المبالغة فى دور الضحية، بدلا من أن تظهر أن أى تحالف يمكن تخيله من أعدائها سيلقى الضربة القاضية.
غير أن بينارت يسجل أن كبريات المنظمات اليهودية الأمريكية، بأجنداتها التى تسير فى كثير من الأحيان على هوى الجهات المانحة الغنية القليلة (مثل عملاق أندية القمار سيلدون أدلسون) جعلت الدفاع غير السليم عن اسرائيل وليس النقد البناء حجر الزاوية فى سياساتها، واعتبرت أن الانحراف عن الحكاية دائمة التجدد عن فكرة الضحية، أمر غير مقبول. ونقل عن ابراهام فوكسمان، مدير رابطة مكافحة التشهير، قوله: «الديمقراطية الإسرائيلية تقرر، وعلى اليهود الأمريكيين تقديم الدعم». وكانت مثل هذه الحكايات عن إسرائيل صغيرة محاصرة، وجيل من الناجين من المحرقة، قد حققت نجاحا من قبل، لكنها غير مجدية اليوم. ويكتب بينارت: «يقف جمهور اليهود الأمريكيين، بدعمهم لوقف نمو المستوطنات، وتقبلهم للانتقاد العلنى للسياسة الإسرائيلية، على يسار المنظمات التى تتحدث باسمهم، وهى المنظمات التى تعارض دائما تقريبا ضغط الولايات لمتحدة على القادة الإسرائيليين، وتلقى اللوم على الفلسطينيين بشكل حصرى بسبب عدم إقامة سلام فى الشرق الأوسط».
ويسهل إلقاء اللوم على الفلسطينيين بخصوص الانقسام، والرياء، وعدم السعى إلى حدود 1967 وإنما محو إسرائيل على الرغم من العمل بشكل متزايد على تشويه التجولات الفلسطينية الكبرى فى ظل رئيس الوزراء سلام فياض.
غير أن لعبة إلقاء اللوم كانت تصبح أكثر مصداقية، لو كانت حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، أظهرت أدنى اهتمام بالسلام؛ لكنها لم تفعل. ويستمر التوسع الاستيطانى المدعوم فى الضفة الغربية، كادعاء ملموس بالحق فى الأرض التى يسميها نتنياهو يهوذا والسامرة.
ويلاحظ بينارت (وعلى الدبلوماسيين الإسرائيليين الذين قد «يعيدون تصنيف» إسرائيل أن يلاحظوا): «ليس لدى إسرائيل مشكلة علاقات عامة، وإنما مشكلة سياسة. فليس بوسعك أن تروج للاحتلال فى عصر ما بعد الاستعمار». فذلك الاحتلال، الذى يجرى تأبيده، يعنى كما أوضح الرئيس باراك أوباما أنه «لايمكن تحقيق حلم دولة يهودية وديمقراطية».
والأمر الذى لا ينتبه إليه نتنياهو وكبريات المنظمات اليهودية الأمريكية، وفق تعبير بينارت «كلما كانت الصهيونية أقل ديمقراطية فى الممارسة العملية، زاد شك الناس فى جميع أنحاء العالم فى شرعية الصهيونية نفسها». ويقول محقا إن إسرائيل، ديمقراطية داخل الخط الأخضر «ولكنها فى الضفة الغربية حكم عرقى، حيث يتمتع اليهود بالمواطنة بينما لا يتمتع بها الفلسطينيون».
●●●
وتتعقب أروع الصفحات من كتاب «أزمة الصهيونية» الخلفية الأيديولوجية للصدام المرير بين أوباما ونتنياهو. ويوضح بينارت قوة النفوذ الصهيونى الليبرالى للحاخام أرنولد جاكوب وولف على أوباما خلال سنواته فى شيكاغو. فقد كان ولف يكره فكرة «إسرائيل محاصرة من قبل المعادين للسامية». وكانت تعاليمه تركز على «الحوار بين الأديان»، وأفكاره «تكاملية». وهى تمتد إلى جذور الليبرالية الصهيونية الأمريكية، والتعاليم الأخلاقية للأنبياء الذين، كما وردت فى سفر الخروج، نهوا اليهود عن قمع الغرباء «بعد أن كنتم أنفسكم غرباء فى أرض مصر».
وعلى النقيض من ذلك، نشأ نتنياهو وفق مدرسة جابوتنسكى الصهيونية على يد أب ينظر إلى العرب على أنهم «شبه همج» ويرفض «النزعة الأخلاقية التى تورث الضعف» لصالح تربية سلالة محاربة جديدة من اليهود. ويرسم بينارت صورة مفسرة لما ترسخ فى أعماق نتنياهو على الرغم من تبنيه حل الدولتين مؤخرا من الحيلولة دون قيام أى دولة فلسطينية قابلة للحياة. ويثير تصويره لصداقة نتنياهو المبكرة مع أديلسون وغيره من اليهود اليمينيين الأمريكيين الاهتمام بشكل خاص فهو نفسه أديلسون الذى يمول مؤخرا مشروع نيوت جنجريتش «اختراع شعب فلسطينى».
وجاء فوز نتنياهو مخيبا للآمال. فأوباما الذى بدأ بالتأكيد على ضرورة وقف المستوطنات، انتهى به الحال إلى وقف صدور قرار من مجلس الأمن لهذا الغرض. فقد كان عليه أن يتخلى عن صهيونيته الليبرالية، من أجل إنقاذ أمريكا سياسيا. وهذا أوضح ما يصور أهمية كتاب بينارت لمستقبل إسرائيل وصدوره فى الوقت المناسب.