تطرح معركة إعداد الدستور فى مصر عديدا من القضايا نتيجة ما يصيب جماهيرها من حالة الإحباط عقب الانتخابات البرلمانية أو معايشة بؤس معركة انتخابات الرئاسة ولست هنا بصدد التحليل السياسى لنتائج المعارك الانتخابية، وإن كنت لا أجدها بعيدة عن حالات الإحباط المؤسفة. إن ما يثير التساؤل هنا هو مدى توفر ثقافه سياسية كافية لجماهير بلادنا لتشارك فى جدل حقيقى تتطلبه هذه المعارك؟ وهل تستعد القوى السياسية فى مصر حاليا لتعويض خسائرها بالاستعداد للمعركة التاليه مباشرة وهى فى مصر مثلها فى تونس وليبيا معركة إعداد الدستور الجديد الذى ستحتكم اليه جماهير الانتفاضات الشعبية؟، وفى التقدير أن الاعتراض على الدستور ومواد التوريث قبل الثوره كان أحد الاسباب الرئيسية لها! فهل تعد القوى الديمقراطية جماهيرها مرة أخرى لمثل هذا الموقف على أساس ثقافه سياسية حقيقية؟
●●●
تعلمنا بعض التجارب الأفريقية دروسا عديدة فى هذا المجال سنأتى بالتفصيل على أهمها فى جنوب أفريقيا، لكننى أشير أولا إلى أن تجارب فى السنغال وكينيا مثلا دفعت بالمعارضة الديمقراطية إلى التصدى لرئاسات دكتاتورية حاولت تعديل الدستور على هواها فتمت تعبئة الجماهير وسقطت الحكومة فى كينيا عام 2008، ثم سقط الرئيس نفسه مؤخرا فى السنغال بنفس آلية المعارضة التعبوية فى انتخابات ضد استبداد الرئيس وحزب الأغلبية الحاكم.
ويجعلنا ذلك نتساءل عن ظروف التثقيف السياسى التى تجعل الشعوب تتوصل إلى صيغ شفافة لوضع دساتير تضمن تطورا سلميا لمسارها الديمقراطى بدرجة أو أخرى من النجاح. وقد لفت نظرى مؤخرا دراسات عديدة فيما يسمى ب«التعليم المدنى Civic Education»، وعناوين فرعية مثل» إعداد الجمهور للمشاركة.. والتجربة البارزة التى وجدت أن معظم المصادر الحديثة تقدمها كانت عن جنوب أفريقيا، منذ فترة تحولها الديمقراطى بين 94/1996 لتوصيل الجماهير الأفريقية إلى السلطة الفعلية.. بعد فترة من الحوار الشفاف بين القوى الصاعدة والنظام العنصرى السابق 91/1994.. وقد استهدفت «الإدارة الدستورية «التى أشرف عليها حزب المؤتمر الوطنى «لإعداد الجماهير للمشاركة فى إعداد الدستور «لاحظ الاسم» أن تصل لأكبر قاعدة شعبية خاصة من المهمشين والأميين، الذين كانوا دائما مستبعدين اجتماعيا وسياسيا. ولم يعلن ذلك بشكل دعائى أو إعلامى فقط بل استغرقت «لجنة الاعداد للمشاركة»، أربعة شهور لإعداد «خطة الوصول» إلى جميع القطاعات وإشراكها فى الرأى. وخصصت شهرا من تلك الفترة لعمل تجريب لاستطلاع الآراء عن أفضل سبل الوصول إلى الجمهور المعنى. وكانت عناصر الاستطلاع قد أعدت استمارات مبسطة لمعرفة رأى هذا الجمهور فى عناصر الدستور المطلوب وكيف يرى الشعب مصالحه فيه. كما كان ثمة استدعاء لمجموعات من خارج الإقليم لتقييم ما تم، ذلك لأن العمل كان يجرى للوصول لجماعات بشرية متنوعة مع الوضع فى الاعتبار أن ثمة إحدى عشرة لغة رسمية للبلاد، تعج بها الملصقات والكتيبات والنشرة نصف الأسبوعية، وكلفت الأقسام التنفيذية بطبع 160 ألف نسخة من الاستطلاع كل أسبوع، بل كانت تطبع كتيبات كاريكاتورية حول قضايا الدستور المهمة، وأنشأت جامعة كيب تاون مواقع إلكترونية لنفس الغرض التعريفى. أما التليفزيون فكان يرتب مناظرات حول أهم القضايا الدستورية بدوره. وقامت الإذاعات بوضع برامج للوصول إلى عشرة ملايين مواطن، بل واستعمل التليفون ليقوم عشرة آلاف متدرب بالحوار حول القضايا الدستورية أيضا مع أفراد من كل موقع شعبى واستخلاص آرائهم. وتشير التقارير عن هذه الحملة وترتيبات لجنة الاتصال بالجماهير إلى أنها قامت بالفعل بعقد 486 ورشة عمل تحت شعار «وجها لوجه» تستخدم فيها مناهج المشاركة بلعب أدوار معينة، أو يقدم فيها التعريف بالتاريخ الدستورى للبلاد، ومبادئ حقوق الإنسان بشكل علمى قابل للإضافة من قبل المواطنين.
●●●
وتذكر مختلف المصادر أن لجان الاتصال هذه كانت تستثمر هذه الورش لإحضار مشاركين أو معلمين من مختلف الأحزاب والشخصيات العامة من الأقاليم التسعة بحيث أصبح المواطن يرى وجوها من فصائل كانت متنازعة تجلس مع بعضها فى سلام لمناقشة القضايا الدستورية المشتركة يذكر أحد التقارير أن هذه العملية جعلت المواطنين السود من جنوب أفريقيا ينخرطون لأول مرة فى «السياسة» بما لم يحدث من قبل.. وساعد فى ذلك قيام اللجنة بتوزيع أربعة ملايين ونصف نسخة من مسودة الدستور (فى صورة مبسطة) واثنتى عشرة مليون نسخة من صيغة الدستور المقترح عند الانتهاء منها.. ونلاحظ من وصف التقارير أن هذه النسخ وصلت المواطنين عبر البريد، بل وفى التاكسيات، ومع الصحف اليومية وفى المدارس، بل واستخدمت نسخا بطريقة « بريل» وتسجيلات صوتية.. إلخ، وأرسلت اللجنة عمدا نسخا من الدستور لرجال الأمن، كما نظمت اللجنة قبل انتهاء عملها «أسبوع الدستور» لتشيع الوعى العام حوله. وقد ذكرت تقارير المراقبين الخارجيين ثقتهم بأن حوالى ثلاثة أرباع سكان جنوب أفريقيا أى حوالى ثلاثين مليونا فى ذلك الوقت قد وصلتهم هذه الحملة أو انخرطوا فيها بشكل أو بآخر، وأن حوالى عشرين مليونا قد قدموا آراءهم خلال هذه العملية.
والحق أن التقييم الحقيقى لنتائج هذه العملية، لايمكن أن يكون دعائيا، لأننا تحققنا عمليا من هذه النتيجة عبر موقفين: أولا صفوف الملايين فى الانتخابات العامة منذ 1994 للتصويت على التعدد الحزبى الذى طرح عليهم بقوة وخاصة فى انتخابات 1998، 2004، 2009. وقد ازداد رقم المشاركة دائما عن 60%. أما الموقف الثانى: فهو نجاح حزب المؤتمر الوطنى فى ثلاثة انتخابات متعاقبة فى الحصول على الأغلبية وتشكيل الحكومة، لكنها أغلبية ذات دلالة بين 62 و65% ولكن الحزب لم يستطع وياللدهشة تحقيق حلم بعض عناصره فى تجاوز نسبة الثلثين ليمكنه وحده تعديل الدستور حسب مطامح بعض العناصر التسلطية داخله، ومعنى ذلك أن حزب «المؤتمر» قد أنجح تجربته إلى حد كبير وعبر عن تمثيلة لإرادة سياسية عالية، وهى تجربة تاريخية كتبنا عنها كنموذج لبناء «المؤتمر الوطنى» الذى قام عام 1912، وتطور تحالفه مع الشيوعيين فى مرحلة ومع الحركة العمالية فى مرحلة أخرى، وقبل ذلك مع الملونين والآسيويين. وكان المضمون الاجتماعى واضحا طوال تلك الفترة.
الدرس الآخر فى تجربة المؤتمر الوطنى الافريقى، أنه حرص أولا، ولعقود طويلة على الوصول للمجتمع قبل التطلع للسلطة فى الدولة، وهى السياسة التى أبقت التحالف الشعبى مع الحزب. ومن الواضح أن ذلك هو عكس ما يحدث فى بلادنا حيث يبدو السعى متسارعا إلى قمة الدولة وآليات السلطة غير عابئين بإدارة المشاركة الشعبية الحقيقية التى يدعى الكثيرون تمثيلها.
●●●
إن الدستور فى مصر لا يمكن أن يأتى لصالح الجماهير بهذه الطريقة الفوقية التى تشكلت بها اللجنة الدستورية.. ولابد أن لاحظ البعض حرص الاسلاميين مثلا على نسبة 67% عند التصويت ليحسم الثلثين من أتباعهم أى قرار، وإلى أن تستطيع القوى الديمقراطية إدارة معركة المشاركة وثقافتها كجزء من عملها السياسى بين الجماهير فى الفترة القادمة، فالأمل يظل محصورا فى الإعداد لمعارك إسقاط الحكومات مثلما حدث فى السنغال وكينيا وبتكاليف عالية فى بعض التجارب المماثلة.