قليلون هم المثقفون الذين استطاعوا أن يقبضوا على الجمر، وأن يخلصوا لما آمنوا به من قيم ومبادئ فى عصر كان كل شىء فيه يباع فى سوق النخاسة.. وقد كان واحدا من هذه الأقلية من المثقفين الشرفاء. وقليلون هم المثقفون الذين لم تجذبهم أضواء الشهرة ولا انتظروا عطايا السلطان، وآمنوا بأنه فى النهاية لن يصح إلا الصحيح، وقد كان واحدا من هؤلاء. لكن مصطفى نبيل بكل تواضعه الجميل كان أكبر من ذلك بكثير. لقد استطاع هذا الرجل من غرفته البسيطة فى دار الهلال أن يكون مركزا رئيسيا للثقافة الجادة والإبداع الجميل. على يديه استعادت «مجلة الهلال» بريقها ودورها المهم فى الثقافة العربية. وأطلق «كتاب الهلال» يضرب فى العمق مدافعا عن العقل، داعيا للنهضة بينما كانت «روايات الهلال» تفتح آفاقا جديدة أمام المبدعين الحقيقيين من كل أنحاء الوطن العربى. كان يدرك وكنا ندرك معه أنه يسبح ضد التيار.. فى زمن الركاكة كان يحاول تقديم ما ينفع الناس والوطن، ومع هجمة الفكر الظلامى كان الفكر المستنير هو اختياره، وفى الوقت الذى كانت أصوات العزلة ترتفع فيه كانت «الهلال» صوتا لكل العرب، وفى الوقت الذى كانت دولة الفساد والاستبداد تعربد كانت الأصوات المشتاقة للعدل والحرية تجد عنده مساحة لتقول كلمتها لا تجدها عند غيره. أتحدث عن أيام صعبة وليس عن أيام أصبح الجميع فيها أبطالا ببلاش!! أتحدث عن أيام كان على المثقف الحقيقى أن يواجه جيوش التخلف والإرهاب، وضغوط التطبيع والتركيع، وعصابات الفساد وسلطة الاستبداد، وانقسام المثقفين بين من ضعف، ومن خان، ومن استسلم، ومن تملكه اليأس.. ولكن أيضا من صمد وقاوم، ومن تمسك بالأمل وعمل جاهدا من أجل الخلاص. كانت «المقاومة» قدر مصطفى نبيل على الدوام.. وهو يتابع الشئون العربية كان جزءا من مقاومة فلسطينية يولد معها الأمل. وفى عمله النقابى كان فى صف مقاومة أخرى تطلب الديمقراطية ردا على الهزيمة. ثم كان دوره الأهم فى مقاومة الانحطاط الثقافى، وفى زمن كانت الثقافة فيه تختزل فى رقصة «التنورة» ونشر الأعمال الكاملة لأعضاء لجنة السياسات!.. وكانت المطابع تدور بكل ما يهين العقل وينشر الجهل ويدعو للتخلف.. لم يكن سهلا أن تمضى عكس التيار، وأن تواصل الالتزام بما آمنت به، وأن تحتفظ ب«الهلال» بعيدا عن التلوث الثقافى، وأن تحيلها إلى منبر حقيقى للفكر المستنير والثقافة المحترمة والإبداع الجميل. وداعا أيها الصديق الجميل النبيل. عزاؤنا فيك أنك ستبقى صفحة نعتز بها فى كتاب لن تنتهى صفحاته، يحمل عنوانا تحبه عن: شرف المثقف المصرى!!