المجلس الأعلى لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة يعقد اجتماعه الدوري.. صور    التجاري الدولي للتمويل CIFC تحقق محفظة عمليات تتجاوز 4.1 مليار جنيه    مصر والهند تبحثان سبل تعزيز العلاقات الاستثمارية والتجارية المشتركة    نادي الزمالك يناشد الرئيس السيسي لإعادة أرض فرع أكتوبر    خالد الجندى ب"لعلهم يفقهون": الإسلام لا يقتصر على الأركان الخمسة فقط    هبوط البورصة بالختام للجلسة الثانية على التوالي بتداولات 3.5 مليار جنيه    رئيس الوزراء يحضر مأدبة عشاء رسمية لرؤساء الوفود المشاركة فى قمة "تيكاد 9"    الجيش الروسي يحرر بلدة ألكسندر شولتينو في جمهورية دونيتسك الشعبية    الرئيس اللبنانى: ملتزمون بتطبيق قرار حصر السلاح بيد الدولة    جامعة الطفل تشارك في المعسكر الصيفي التاسع للمراهقين بالصين    الحكم بإعدام المتهمين بقتل تاجر مواشى لسرقته بالبحيرة    وزيرة التضامن تتابع تداعيات حادث طريق مطروح وتوجه بتقديم الدعم لأسر الضحايا    جنايات بنها تنظر أولى جلسات محاكمة المتهم بخطف طفلة والتعدى عليها بشبين القناطر    معاون وزير السياحة يكشف تفاصيل استخراج الآثار من قلب بحر الإسكندرية.. فيديو    بدرية طلبة تواجه عقوبة الإيقاف أو الشطب بعد إحالتها لمجلس التأديب    أحمد سعد يتألق في مهرجان الشواطئ بالمغرب.. والجمهور يحتفل بعيد ميلاده    جامعة أسوان تختتم فاعليات الأسبوع الأول من مبادرة "كن مستعدًا"    رئيس قطاع المعاهد الأزهرية يتفقد "المشروع الصيفى للقرآن الكريم" بأسوان    الصحة: استقبال 4270 مكالمة على الخط الساخن 105 خلال يوليو 2025 بنسبة إنجاز 100%    وكيل صحة الإسماعيلية تفاجئ وحدة طب أسرة الشهيد خيرى وتحيل المقصرين للتحقيق    جامعة أسيوط تعلن مواعيد الكشف الطبي للطلاب الجدد    رئيس مركز القدس للدراسات: الحديث عن احتلال غزة جزء من مشروع "إسرائيل الكبرى"    وزير الثقافة يعلن محاور وأهداف المؤتمر الوطني «الإبداع في زمن الذكاء الاصطناعي»    بجانب حرب الإبادة..قطاع غزة يواجه تهديدًا جديدًا من الأمراض المقاومة للمضادات الحيوية    مستخدمًا سلاح أبيض.. زوج ينهي حياة زوجته ويصيب ابنتهما في الدقهلية    «الصحة»: وفاة شخصين وإصابة 18 في حادث تصادم طريق «الإسكندرية - مطروح»    هبوط جماعي لمؤشرات البورصة في نهاية تعاملات الخميس    رئيس الوزراء يلتقي الرئيس التنفيذي لمجموعة «تويوتا تسوشو» اليابانية    تقرير: تطور مفاجئ في مفاوضات تجديد عقد فينيسيوس جونيور مع ريال مدريد    «غير من شخصية الأهلي».. شوبير يكشف موقف الخطيب من ريبيرو    «الأرصاد» تحذر من حالة الطقس يومي السبت والأحد.. هل تعود الموجة الحارة؟    كيفية صلاة التوبة وأفضل الأدعية بعدها    نائب وزير الصحة يبحث مع رئيس الأكاديمية العربية للنقل البحري سبل التعاون    بينها إسقاط الجنسية المصرية عن مواطنين.. رئيس الوزراء يصدر 4 قرارات جديدة اليوم    في جولة مفاجئة.. عميد طب قصر العيني يطمئن على المرضى ويوجه بدعم الفرق الطبية    نائب وزير الصحة يشارك في ختام فعاليات المؤتمر العلمي الشامل لزراعة الأسنان بمستشفى العلمين    جودة غانم: بدء المرحلة الثالثة لتنسيق الجامعات الأسبوع المقبل    مدبولي: نتطلع لجذب صناعات السيارات وتوطين تكنولوجيا تحلية مياه البحر    رفضه لجائزة ملتقى الرواية 2003 أظهر انقسامًا حادًا بين المثقفين والكتَّاب |السنوات الأولى فى حياة الأورفيلى المحتج    «انتصار حورس» يفتتح الدورة ال32 لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي    ألسن عين شمس تستعرض برامجها الجديدة بنظام الساعات المعتمدة    "جمهورية المستشارين" يفتح ملف الحوار بين السلطة والصحافة.. نقابة الصحفيين: اللجوء إلى التقاضي يعكس ضيقًا بصاحبة الجلالة.. ومركز دعم دولة القانون: الدفاع عن حق المجتمع في المعرفة واجب وطني    بداية عهد جديد للتنقل الذكي والمستدام چي پي أوتو تطلق رسميًا علامة "ديبال" في مصر    دار الإفتاء: سب الصحابة حرام ومن كبائر الذنوب وأفحش المحرمات    وفد مجلس الزمالك يجتمع اليوم بوزير الإسكان لحل أزمة أرض أكتوبر    مديريات التعليم تنظم ندوات توعية لأولياء الأمور والطلاب حول البكالوريا    الإسماعيلي يتقدم باحتجاج رسمي ضد طاقم تحكيم لقاء الاتحاد    إيفرتون يدرس التعاقد مع مدافع مانشستر سيتي    الداخلية: تحرير 126 مخالفة للمحال المخالفة لقرار الغلق لترشيد استهلاك الكهرباء    هل يوجد زكاة على القرض من البنك؟.. أمين الفتوى يجيب    "الأمور صعبة".. الأهلي يصدم حسام حسن بشأن إمام عاشور    أسعار البيض اليوم الخميس بالأسواق (موقع رسمي)    نتنياهو يرفض مقترح الهدنة ويصر على احتلال غزة بالكامل    أخبار مصر: اعترافات مثيرة ل"ابنة مبارك المزعومة"، معاقبة بدرية طلبة، ضبط بلوجر شهيرة بحوزتها مخدرات ودولارات، إعدام سفاح الإسماعيلية    مواعيد مباريات اليوم الخميس 21 أغسطس والقنوات الناقلة    توسيع الترسانة النووية.. رهان جديد ل زعيم كوريا الشمالية ردًا على مناورات واشنطن وسيول    إذاعة القرآن الكريم| من رفعت إلى نعينع.. أصوات صنعت وجدان المسلمين    توقعات الأبراج حظك اليوم الخميس 21-8-2025.. «الثور» أمام أرباح تتجاوز التوقعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كل سنة وإنت طيبة
نشر في الشروق الجديد يوم 21 - 03 - 2012

فى مثل هذا اليوم من كل عام كانت مَدرستنا أنا وأختى وأخى مدرسة آمون الخاصة، زمالك تقيم حفلا كبيرا: مسرح منصوب فى حوش المدرسة، وكراسى مرصوصة، يجلس عليها آباؤنا وأمهاتنا أو على الأقل أمهاتنا وبوفيه عليه باتونساليه وبتيفور وعصائر وبعض الأزهار. ويخرج البيانو من غرفة الموسيقى متدحرجا على عجلِهِ إلى الفراندة الواسعة التى تقف عليها فى كل صباح آنتى إنعام، ناظرتنا، (وكنا نقول لها «إنتى» ونقول للمدرسات «ميس» مع اننا الحمد لله نقول للمدرسين «أستاذ» وليس «مستر») إنتى إنعام تشرف على طابور الصباح من الفراندة لكنها فى هذا اليوم تنزل إلى الحوش مع الأهل، تقف معهم، تضايفهم، وتجلس بينهم فى الصف الأول لتشهد العروض التى قضينا ساعات وساعات فى الأسابيع الماضية نتدرب عليها: مسرحيات قصيرة، رقصات على أنغام البيانو المتواجد الآن فى الفراندة تدق عليه ميس زينب، وفى النهاية التتويج الثابت للحفل حين نغنى: عيدك يا أمى/ أجمل أعيادى/ لولاك يا أمى/ ما كان ميلادى/ قلبك يرعانى/ يا بهجة القلب/ وليس ينسانى/ فى البعد والقرب.. والنشيد، ككل أناشيدنا، كان من تأليف وتلحين الشيخ عبيد، وهو الشيخ المعمم الذى يدرس اللغة العربية للقسم الثانوى بالمدرسة والذى يلازمه دائما الشيخ طلبة، زميله ووكيل المدرسة، والذى يشهد التلاميذ بأنه أشطر المدرسين، والذى تتراءى على وجهه دائما ابتسامة صغيرة غامضة يزداد غموضها حين ننشد أغانى الشيخ عبيد. عيدك يا أمى/ أجمل أعيادى/ لولاك يا أمى/ ما كان ميلادى/ قلبك يرعانى.
ونحن، الأطفال، نرى الأمر عاديا جدا: أمهاتنا يجلسن على الكراسى، يتضاحكن ويتبادلن الأحاديث ويأكلن البتيفور. نبحث عن الأم الخاصة بنا فى نهاية الحفل لنمشى متقافزين إلى البيت إلى جانبها، سعداء بإطرائها على أغانينا، رقصاتنا، متحمسين للإجابة على أسئلتها حول أصدقائنا ومدرسينا. ونحن، المراهقون، نرى الأمر عاديا إلى درجة الملل: أمهاتنا يجلسن على الكراسى، يتضاحكن ويتبادلن الأحاديث ويأكلن البتيفور. نتحاشى المرواح معهن كى نتلكأ بعض الوقت مع الرفاق. لم نكن نعلم وكيف لنا أن نعلم؟ أن أياما وأعواما ستأتى سيبدو فيها هذا المشهد، المتزايد بُعدا ووضوحا، من المشاهد الأكثر تعبيرا عن السعادة واتزان الأمور فى حياتنا. أرى أم مصطفى الملاح صامتة مبتسمة، شعرها معقوص إلى الوراء تهرب بعض خصلاته لتُزَيِّن وجهها فتشبه مريم فخر الدين أو فينوس بوتيتشيللى، وأرى طنط سومة، مامِة أشرف وسهير، سمراء لامعة العينين متقدة متحركة مقبلة دائما، ثم طنط عقيلة، مامة عبلة وعزة، أجمل بنات المدرسة، جادة ومنشغلة. وغيرهم، وغيرهم.

لا أذكر من الذى أوصى: أنظر إلى كل شىء وكأنك تراه للمرة الأخيرة. أحاول هذا أحيانا ولا أستطيعه. حاولته فى سنة أمى الأخيرة. كنت أنظر إليها نائمة وأقول لنفسى عمدا: يوما ليس ببعيد ستنظرين إليها هكذا ولن تكون نائمة نوما يفاق منه.

كان عندى دائما هاجس فقدان أمى. أول كابوس أذكره، وكنت ربما فى السادسة، صوَّرها لى راقدة على دكة حجرية فى حديقة لندنية شديدة البرودة وكنا وقتها فى لندن حيث كانت هى وأبى يَدْرسان وأنا الطفلة أجلس ملتصقة بها أرجوها ألا تموت. وكانت تجيبنى مبتسمة بحنان، مشفقة لكن مطمئنة، تقول: لكننى مضطرة. وكان أن تحقق المشهد فى صيفنا الأخير معا، حيث جلست ملتصقة بها، أرجوها بصراحة ألا ترحل، وقد استشعرت انسحابها التدريجى خلال ذلك الصيف، فابتسمَت وسألَت: وإلى متى أظل سيدة عجوز تجلس فى كرسى فى الركن؟

فقدت أمى ولا أظننى سأشفى أبدا بالرغم من أن فقدان الأم من طبائع الأمور.

أنا التى أخاف إن فتحت فمى أن يمل سامعى عند أول مقطع من أول كلمة كنت أتحدث إليها بلا حساب؛ هى لن تمل منى، وإن مَلَّت ليست مشكلة. لتتحمل. لكنها لن تمل. كنت أحادثها من المطارات وبالذات المطارات التى لم أعتدها أو لا أرتاح لها، حين يكون عالمى مليئا بالأغراب. كنت أحادثها فى لحظات الاغتراب عن النفس، فتعيد إلىّ نفسى.

سألتها مرة، وكان سؤالا بلاغيا لم أتوقع إجابة عليه سألت: من أين يمكن أن أرُدّ بعضا مما عملتيه لى؟ وأسارع بالقول بأننى لا أقصد بذكر هذا السؤال انى كنت ابنة مثالية، فلم أكن. كنت أشد وأتخانق وأنسى وأتناسى وأتساخف. عادى. السؤال كان فى الحقيقة شبه نظرى. وجاءت إجابتها، ولم أفهمها إلا بعد أن صرت أما. قالت: ترديه لى فى أولادك؛ هكذا تسير الحياة. فهمت بعد أن صرت أما. وفهمت أيضا ذلك القول الإنجيلى: إن العطاء هو التلقى. فغاية ما تطلب الأم هو استقبال أبنائها لعطائها.

فقدت أمى ولا أظننى سأشفى أبدا بالرغم من أن فقدان الأم من طبائع الأمور. فماذا عن أمهات فقدن أبناءهن؟ ماذا اليوم عن أمهات شهداء مصر؟ أتستشعرون كم الأسى اليوم فى أجواء بلادنا؟ قلوب الأمهات. «قلبك يرعانى/ فى البعد والقرب» وقلوب أمهات الشهداء ترعى الأولاد اليوم فى أبعد البعد. كل أم ترى مشهد آخر مرة رأت فيها ابنها. تراه وتستعيده؛ المرة الأخيرة، المتكررة. كل أم عطاؤها الآن أن تأتى بحق ابنها، وهديتها الآن أن نأتيها بحق إبنها. ولو كانت ثورتنا أمسكت بزمام الأمور لكنا فعلنا. سنفعل. وإلى ذلك الحين، نقبل رءوس الأمهات وأيديهن: أولادكم فدوا أولادنا، وحقهم عندنا، لن نهدأ ولن نتوقف إلى أن نجيب حقهم، ونحقق حلمهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.