قبل أن نتعرض لهذين النصين نرجو أن ننبه إلى المبادئ الحاكمة التى أدخلناها فى اعتبارنا ونحن نطرح هذا الاجتهاد: الاعتبار الأول:
أهمية أن ننتهى فى أقرب وقت من إتمام إنهاء المرحلة الانتقالية بعناصرها كلها وتسليم سلطة الحكم إلى مؤسسات دستورية منتخبة وأن يتم هذا الانتقال فى هدوء تام وبغير ذيول مع التقدير الكامل للجهد الكبير الذى بذله المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومن وراءه القوات المسلحة نفسها التى انضمت إلى الثورة فى وقت مبكر فساعدتها وتولت حراستها على النحو والمدى الذى أتيح لها.
الاعتبار الثانى:
أن تخلو إجراءات نقل السلطة مع نهاية الفترة الانتقالية من أى عوار دستورى قد يفتح أبوابا لمشاكل جديدة من شأنها أن تعطل فعليا تمام الانتقال الهادئ إلى مرحلة التحول الديمقراطى فى ظل سيادة كاملة للقانون وحراسة دقيقة من جانب السلطة القضائية التى تظل دائما خط الدفاع الأخير والفعال للحرية والمساواة والعدل وأن يكون النظام نظام قانون لا حكومة أفراد وأشخاص.
أما النص الأول:
فهو نص القرار الصادر من لجنة الانتخابات الرئاسية تحت رقم 6 لسنة 2012 «بشأن حظر الدعاية الانتخابية فى غير الفترة المصرح بها قانونا» والذى تقول مادته الأولى (تحظر الدعاية الانتخابية المباشرة وغير المباشرة عبر أى وسيط من الوسائط سواء الوسائط المرئية أو المسموعة أو المقروءة أو الإلكترونية أو غيرها لأى من المرشحين لرئاسة الجمهورية أو لأى من راغبى الترشيح لرئاسة الجمهورية وذلك منذ صدور قرار دعوة الناخبين لانتخاب رئيس الجمهورية وحتى الموعد القانونى لبدء الحملة الانتخابية المبين بالمادة 20 من القانون رقم 174 لسنة 2005 بتنظيم الانتخابات الرئاسية).
والذى نريد التنبيه إليه أن من شأن التطبيق الحرفى لهذا النص خلق تمييز فعلى حتى وإن لم يكن مقصودا من المشرع مؤداه أن الذين تقدموا للترشيح منذ شهور عديدة تمتعوا بفرصة أكبر كثيرا من فرصة من تقدموا أخيرا خصوصا وأن الرجوع إلى المادة 20 المشار إليها من القانون 174 لسنة 2005 تنص على أن (تكون الحملة الانتخابية اعتبارا من بدء الثلاثة أسابيع السابقة على التاريخ المحدد للاقتراع وحتى قبل يومين من هذا التاريخ....)، ومعنى هذا أن أى مرشح جديد سيحرم من بدء دعايته الانتخابية ولا يتمتع بها إلا خلال الأسابيع الثلاثة المقررة، وفى هذا من الناحية العملية تمييز كبير بين من تقدموا منذ شهور عديدة وباشروا الدعوة لأنفسهم وجابوا محافظات مصر ومدنها وقراها ونقاباتها وسائر مؤسساتها الرسمية والمدنية فأتيحت لهم فرصة تبلغ أضعافا مضاعفة مدة الدعاية والترويج التى يحصل عليها من تقدموا أخيرا لترشيح أنفسهم، وفى إطار الظروف الدقيقة والإلحاح الشعبى على إنهاء الفترة الانتقالية فإن الحل المقبول وإن لم يكن حلا كاملا شاملا إلا أن كل إجراء أو قرار يساعد على تقريب الفجوة بين المدة التى أتيحت لكل من المرشحين القدامى والمرشحين الجدد تكون خطوة فى الاتجاه الصحيح وتقفل باب الشكوى فضلا عن أبواب الطعن ويكون ذلك بالسماح بغير قيد للقيام بالدعاية الانتخابية للمرشحين جميعا حتى الموعد القانونى لبدء الحملة الانتخابية المبين بالمادة 20 من القانون 174 لسنة 2005 بتنظيم الانتخابات الرئاسية، وفى هذه الحالة لا يكون للمرشحين الجدد حق فى الشكوى ماداموا هم المسئولون عن اختيار لحظة ترشحهم وما يترتب عليها من حق القيام بالدعاية الانتخابية المباشرة وغير المباشرة هذا فيما نرى أفضل البديلين وأكثرهما تأمينا لشرعية إجراءات الانتخابات الرئاسية.
أما النص الثانى:
فهو نص المادة 28 من الإعلان الدستورى الصادر فى 30 مارس 2011 حيث تقول فقرتها الثالثة (وتكون قرارات اللجنة نهائية ونافذة بذاتها غير قابلة للطعن عليها بأى طريق وأمام أى جهة، كما لا يجوز التعرض لقراراتها بوقف التنفيذ أو الإلغاء كما تفصل اللجنة فى اختصاصها ويحدد القانون الاختصاصات الأخرى للجنة).
ووجه قلقنا من هذا النص أنه يصادم أحكاما عديدة للقضاء الإدارى (المحكمة الإدارية والمحكمة الإدارية العليا والمحكمة الدستورية العليا) ذهبت كلها على ما لخصه حكم قديم مشهور لمحكمة القضاء الإدارى صادر فى 20 مايو 1956 تقول فيه المحكمة (إن منع سماع الدعوى فى أى تصرف أو أمر أو قرار صدر عن السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية كما تقضى بذلك المادة الثانية من القانون رقم 50 لسنة 1950 هو إعفاء هذه السلطة من أية مسئولية ترتبت على تصرفاتها المخالفة لقانون الأحكام العرفية ذاته، والإعفاء سلطة عامة إعفاء مطلقا من كل مسئولية تحققت فعلا فى جانبها من شأنه أن يخل إخلالا تاما بحقوق الأفراد فى الحرية وفى المساواة فى التكاليف والواجبات)، ونضيف أن هذا الإعفاء يصطدم اصطداما مباشرا مع نص المادة 40 من دستور 1971 والتى نقل مضمونها إلى إعلانات دستورية تالية لقيام الثورة.
أما المحكمة الدستورية العليا فحسبنا أن نشير إلى حكمين من أحكامها حتى لا نثقل على القارئ غير المتخصص بأمور يعرفها جميع المتخصصين فى الدراسات القانونية والدستورية، أما القضية الأولى فهى الدعوى الصادرة بجلسة 6 يونيو 1978 وقد جاء فى ذلك الحكم «أن المادة 68 من الدستور تنص على أن (التقاضى حق مصون ومكفول للناس كافة ولكل مواطن حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعى.. ويحظر النص فى القوانين على تحصين أى عمل أو قرار إدارى من رقابة القضاء) وتضيف المحكمة قولها (وظاهر من هذا النص أن الدستور لم يقف عند حق تقرير حق التقاضى للناس كافة كمبدأ دستورى أصيل بل جاوز ذلك إلى تقرير مبدأ حظر النص فى القوانين على تحصين أى عمل أو قرار إدارى من رقابة القضاء وقد خص هذا الدستور هذا المبدأ بالذكر رغم أنه يدخل فى عموم المبدأ الأول الذى يقرر حق التقاضى للناس كافة، وذلك رغبة من المشرع الدستورى فى توكيد الرقابة القضائية على القرارات الإدارية وحسما لما ثار من خلاف فى شأن عدم دستورية التشريعات التى تحظر حق الطعن فى هذه القرارات وقد ردد النص المشار إليه ما أقرته الدساتير السابقة ضمنا من كفالة حق التقاضى للأفراد وذلك حين خولتهم حقوقا لا تقوم ولا تؤتى ثمارها إلا بقيام هذا الحق باعتباره الوسيلة التى تكفل حمايتها والتمتع بها ورد العدوان عليها) ويضيف الحكم أنه (لما كان حق التقاضى من الحقوق العامة التى كفلت الدساتير المساواة بين المواطنين فيها فإن حرمان طائفة معينة من هذا الحق مع تحقق مناطه وهو قيام المنازعة على حق من حقوق أفرادها ينطوى على إهدار لمبدأ المساواة بينهم وبين غيرهم من المواطنين الذين لم يحرموا من هذا الحق).
أما الحكم الثانى فهو الصادر من الدستورية العليا عام 2009 فى القضية رقم 1 لسنة 26 ق دستورية والذى جاء فيه «أما الدستور بما نص عليه فى المادة 68 من أن لكل مواطن حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعى قد دل على ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة على أن هذا الحق فى أصل شرعته هو حق للناس كافة تتكافأ فيه مراكزهم القانونية فى سعيهم لرد العدوان على حقوقهم دفاعا عن مصالحهم الذاتية، وأن الناس جميعا لا يتمايزون فيما بينهم فى مجال حقهم فى النفاذ إلى قاضيهم الطبيعى ولا فى نطاق القواعد الإجرائية أو الموضوعية التى تحكم الخصومة القضائية ولا فى مجال التداعى بشان الحقوق المدعى بها وفق مقاييس موحدة عند توافر شروطها....) ويعود الحكم فى نهاية هذه الفقرة منه إلى قوله (وهذه العناصر جميعها ليست بمنأى عن الرقابة القضائية لهذه المحكمة بل تخضع لتقييمها بما لا يُخرج نص أى من المادتين 68 و172 من الدستور عن أغراضها التفافا حولها بل يكون لمضمونها مجاله الطبيعى الذى حرص المشرع الدستورى على عدم جواز إهداره...) ويضيف الحكم قريبا من نهايته إلى قصد المشرع من نص المادة 172 من الدستور وأن المشرع الدستورى قصد به (إلى دعم مجلس الدولة فألغى القيود التى كانت تقف حائلا بينه وبين ممارسته لاختصاصه فاستحدث نص المادة 68 الذى يقضى بأن لكل مواطن حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعى وأنه «يحظر النص على تحصين أى عمل أو قرار إدارى من رقابة القضاء»، وبذلك سقطت جميع النصوص القانونية التى كانت تحظر الطعن فى القرارات الإدارية) مضيفة أن ذلك كله قد دل على أن (هذا الحق فى أصل شرعته هو حق للناس كافة تتكافأ فيه مراكزهم القانونية فى سعيهم لرد العدوان عن حقوقهم دفاعا عن مصالحهم الذاتية وأن الناس جميعا لا يتمايزون فيما بينهم فى مجال حقهم فى الالتجاء إلى قاضيهم الطبيعى).
وخلاصة ما تقدم جميعه أننا مع تقديرنا التام لأهمية تجنب تعقيد الأمور وفتح الباب أمام شبهات قد تثار وقد لا تثار نفضل مع ذلك كله اجتناب الوقوع فى محظور آخر يتمثل فى إطالة أمد الفترة الانتقالية أو إلقاء ظلال وشبهات حول إجراءات وقرارات تمت ابتغاء مصلحة عامة وهذا على أى حال اجتهاد نضعه بين يدى المؤسسات القضائية ورجال القانون وأهل السياسية حتى نستطيع على بصيرة أن نختار البديل الأكثر تعظيما للمنفعة والأقل فتحا لأبواب التعطيل ومنافذ الارتباك والحيرة وهو على أى حال اجتهاد هو أحسن ما قدرنا عليه ومن جاءنا بخير منه قبلناه سعداء راضين.