يعد الفتح العربى لمصر على يد القائد عمرو بن العاص علامة فارقة فى وحدة شعب مصر ونسيجه المترابط منذ زمن الفتح وحتى عصرنا الحديث، فعندما توجه عمرو بن العاص إلى فتح مصر عام 638م كانت مصر آنذاك إحدى ولايات الإمبراطورية البيزنطية الشاسعة تحت حكم الإمبراطور هرقل (641610) الذى أذاق المصريين الويلات واضطهدهم اضطهادا شديدا، ولم يجد المصريون فى ذلك الوقت سوى الأنبا بنيامين الأول بطريرك الإسكندرية الثامن والثلاثين الذى عمل على أن يوحد كلمة المصريين ويشحذ هممهم فى مواجهة الاضطهاد البيزنطى لهم. ولقد نشأ بنيامين فى أسرة مسيحية ثرية بقرية بيرشوط بمحافظة البحيرة، وعندما بلغ سن الشباب أحب أن يسلك طريق الزهد والرهبنة فترهب بدير كانوب إلى الشمال الشرقى من مدينة الإسكندرية على يد الراهب ثاؤنا رئيس الدير. واتصل بنيامين بالبطريرك أندرونيكوس بطريرك الإسكندرية السابع والثلاثين الذى أعجب به وبصفاته الطيبة فقربه إليه ورسمه قسا هناك، وحاز بنيامين على ثقة البطريرك فصار يساعده فى إدارة أمور الكنيسة كلها، بل وأوصى أندرونيكوس عند وفاته بأن يخلفه بنيامين على كرسى البطريركية لثقته فيه، فتولى بنيامين كرسى البطريركية لمدة أربعين عاما فى الفترة ما بين (623662) اشتهر خلالها بقوة سلطانه على مواطنيه فحاز محبة المصريين وتقديرهم كما كان لا يتهاون فى أمور الدين، فشرع منذ البداية بأن يأخذ قسسه بالشدة إذا ارتكبوا الرذائل، فيذكر أنه لما ولى البطريركية كتب إلى أساقفته يقول: رأيت فى مقامى فى حلوان وبابليون جماعة من أهل العناد والكبر من القسس والشمامسة وما أشد ما كرهت نفسى أعمالهم، وإنى أبعث بهذا الكتاب إلى جميع الأساقفة آمرهم أن ينظروا مرة فى كل شهر فى أمر كل رجل من رجال الدين لم تمض على رسامته عشر سنوات».
وحدث أن تعرضت مصر للاحتلال الفارسى الذى انتزع مصر من الإمبراطورية البيزنطية فى الفترة ما بين عامى 618/628م، وظل بنيامين خلال تلك الفترة المضطربة يوجه إدارة الكنيسة فى ظروف بالغة الصعوبة خاصة عندما قام الفرس بتدمير القرى والأديرة العامرة فى الإسكندرية وقتلوا الرهبان والنساك فيها بحثا عن ثرواتهم.
وعندما انتصر الإمبراطور هرقل على الفرس واستعاد الأملاك البيزنطية مرة أخرى أضحى بطل المسيحية وناصرها خاصة بعدما استعاد الصليب المقدس الذى استولى عليه الفرس من بيت المقدس عند احتلالهم لها ونقلوه إلى عاصمتهم المدائن عام 614، وكانت تلك أول حرب تشنها بيزنطة بدافع الحماس الدينى من أجل استعادة الصليب، حيث نصبه هرقل فى موضعه مرة أخرى فى حادثة لا تزال التقاويم تخلدها إلى اليوم على أنها عيد تمجيد الصليب، فى 14 سبتمبر من كل عام.
وكان أكثر ما يشغل الإمبراطور هرقل بعد انتصاره هو تأمين إمبراطوريته وتوحيد المذاهب الدينية المختلفة فيها للحفاظ على الوحدة الداخلية خاصة بعد الشقاق الذى أحدثه مجمع خلقيدون 451م. وانفصلت الكنيسة الجامعة بعده إلى شرقية أرثوذكسية وغربية كاثوليكية.
ولذلك أعلن هرقل عن فكرة الإرادة الواحدة التى صاغها البطريرك سرجيوس الأول بطريرك القسطنطينية (610/638) والتى تقول إن طبيعتى السيد المسيح تتسمان بإرادة واحدة، ذلك المذهب الذى حاول هرقل نشره فى الإمبراطورية كلها فبعث بالأسقف كيرس الذى عرف باسم المقوقس نسبة إلى بلاد القوقاز ليكون بطريركا على الإسكندرية وحاكما لمصر، وكان كيرس هذا معروفا بقسوته وكراهيته لأصحاب الطبيعة الواحدة، كما منحه الإمبراطور سلطة مطلقة لتحقيق سياسته فى مصر.
وتلقى بنيامين خبر قدوم البطريرك الجديد بحذر شديد بل وعقد قبل مجيئه مجمعا شهده القسس والرعية، فألقى فيهم خطابا يحضهم فيه على أن يثبتوا على عقيدتهم حتى يوافيهم الموت، وكتب إلى أساقفته جميعا يأمرهم بالهجرة إلى الجبال والصحارى ليختفوا فيها حتى يرفع الله عنهم غضبه وأنبأهم بأن البلاد سيحل بها الوبال والظلم عشر سنوات ثم يرفع عنها بعد ذلك، وخرج بنيامين من الإسكندرية خفية إلى وادى النطرون، وواصل سيره حتى بلغ الأهرام ومنها اتخذ مسيره إلى الصعيد، وأخذ يتنقل من دير إلى دير حتى وجد ملاذا آمنا فى طيبة.
وعندما وصل كيرس شرع فى نشر المذهب الجديد، إلا أن المصريين رفضوا هذا المذهب رفضا شديدا، وقالوا إنه طالما أن الله له إرادة واحدة وفعل واحد فإنه لابد أن له طبيعة واحدة أيضا، وتمسكوا بمذهبهم رغم كل محاولات التوفيق المذهبى، واعتبروا أن أى خروج عليه يعد خيانة لدينهم واستقلالهم.
ولما فشل كيرس فى استمالة المصريين إلى مذهب الإمبراطورية اضطهدهم اضطهادا عنيفا استمر عشر سنوات وأذاقهم كل أنواع العذاب، بل وطال التعذيب مينا شقيق البطريرك بنيامين الذى تمسك بمذهبه فأحرق أتباع كيرس جسده ونزعوا أسنانه ثم ألقوه فى البحر فمات غرقا، وأخذ بنيامين، وهو فى مأواه يشجع الأقباط على المقاومة والتمسك بعقيدتهم والصبر عليها على حين اشتد سعى كيرس فى البحث عنه غير أن هذا السعى لم يكلل بالنجاح.
وحدث فى تلك الأثناء أن انطلق العرب من شبه الجزيرة العربية لنشر الدين الإسلامى وتمكنوا من فتح بيت المقدس عام 638م. ولما حضر الخليفة عمر بن الخطاب بنفسه لتسلم مفاتيح بيت المقدس من البطريرك صفروينوس عرض عمرو بن العاص عليه أمر فتح مصر، وعندما وافق الخليفة انطلق عمرو إلى مصر، حيث رحب أغلب المصريين به ترحيبا شديدا وقاموا بمعاونة الجيش الفاتح فى حربه ضد البيزنطيين وساعدوهم فى الاستيلاء على الحصن البيزنطى فى بابليون بمصر القديمة، وذلك لما ذاقوه من مرارة الحكم البيزنطى، على حين وجد عمرو بن العاص مقاومة شرسة من كيرس حتى انكسرت شوكته بعد الموت المفاجئ لهرقل فى عام 641م، فأتم العرب فتح مصر، وأمر عمرو بن العاص باستدعاء بنيامين وإعادته إلى مقره على كرسى البطريركية بالإسكندرية، حيث استقبله أهلها استقبالا حافلا، ويروى بنيامين عن عودته قائلا: «كنت فى بلدى وهو الإسكندرية فوجدت بها أمنا من الخوف واطمئنانا بعد البلاء، وقد صرف الله عنا اضطهاد الكفرة وبأسهم»، وكان لعودة بنيامين أثر كبير فى إصلاح أحوال الكنيسة؛ فأصلح ما تهدم من الأديرة والكنائس، وعمل على أن يوحد المسيحيين ويجمع شملهم مرة أخرى، وقد كفل العرب للمسيحيين المصريين حرية العبادة فلم يعودوا يخشون من إظهار عقيدتهم؛ فنشطت الكنيسة وأثبتت دعواها فى أنها كنيسة الأمة المصرية، ورحب المصريون بعودة السلام والطمأنينة إلى مصر مع الفتح العربى، وعاش المسلمون والمسيحيون كنسيج واحد حتى إن المؤرخ المسيحى المصرى حنا النقيوسى ذكر بعد الفتح العربى بخمسين عاما: «إن عمرا لم يضع يده على شىء من أملاك الكنائس ولم يرتكب شيئا من النهب والتعصب بل إنه حفظ الكنائس وحماها إلى آخر مدة حياته».