صفحات التاريخ تحوى الكثير عن طبيعة الشخصية المصرية ومن أهم سماتها التدين، ومنذ البداية التقت المسيحية والإسلام على أرض مصر، والعلاقة بين الإسلام والمسيحية كان لها خصوصيتها. فقد حددت معاهدة الفتح العلاقة بين المسلمين والمصريين فلقد أمنت أهالى البلاد من الأقباط على أنفسهم ودينهم وأموالهم، وإذا كان المسيحى يدفع الجزية فالمسلم يدفع الزكاة، وكان هذا مقابل حمايتهم وعدم مشاركتهم فى الجيش الإسلامى فى البدايات، لأن الجيش كان عربياً خالصاً مع الفتح، والمصادر المسيحية تشير إلى تلك العلاقة وتعكس صورة لها فهناك مؤرخ وهو رجل دين مسيحى اسمه ساويرس بن المقفع له مؤلف عن تاريخ الكنيسة وصلة المسلمين بالمسيحيين من أهل البلاد. ولقد صور اللقاء الأول بين بطريرك الكنيسة المسيحية المصرية آنذاك وهو البطريرك بنيامين وقائد جيش الفتح الإسلامى عمرو ابن العاص فلقد عانى الشعب المصرى تحت حكم الدولة البيزنطية وهى الدولة الرومانية الشرقية لاختلاف المذهب بينها وبين المصريين ، وتعرض الشعب للاضطهاد، ولقد أرسل لهم الامبراطور والياً وكان رجل دين فى نفس الوقت وهو كيرس الذى اسمته المصادر الإسلامية «المقوقس» والذى حاول إجبار الأهالى على اعتناق المذهب المخالف، وكان من ضحاياه أخو البطريرك بنيامين الذى يشير ساويرس ان الحاكم قام بحرقه حتى سال دهنه ، وان البطريرك اضطر إلى الاختفاء لمدة عشر سنوات حتى لا تصل اليه الدولة ، ولكن جاء عمرو بجيشه إلى مصر وتم الفتح ، وأقر المصريين على ما بيدهم وعلى ادارتهم ووظائفهم الادارية وكان أحد هؤلاء الموظفين وكان مقرباً من عمرو ويصفه ساويرس «بالمؤمن» ويقول انه عرف عمرو بسبب الأب المجاهد بنيامين البطريرك النصرانى وانه هارب من الروم خوفاً منهم، فكتب عمرو بأن الموضع الذى يكون فيه بنيامين بطريرك النصارى القبط له العهد والأمان والسلامة من الله ، فليحضر آمنا مطمئناً ويدبر حال بيعته وسياسة طائفته ، وان بنيامين عاد إلى الإسكندرية بفرح عظيم بعد ثلاثة عشر عاماً منها عشر سنين فى عهد الامبراطور الرومانى «هرقل» وثلاثة قبل ان يفتح المسلمون الاسكندرية ، وان الأمير أحضره بكرامة وإعزاز ومحبة فلما رآه أكرمه وقال له انه لم ير فى جميع المدن التى ملكها المسلمون رجلاً مثله وانه جيد الكلام وانه منحه ادارة بيعته (كنيسته) والاشراف على جميع الكنائس ومن فيها، وله ان يدير الأمور ، ووعده حين يرجع إلى المغرب أنه سيفعل له كل ما يطلبه ، وان بنيامين دعا له بكلام حسن ، وانه انصرف من عنده مبجلاً وان الكنيسة رجع اليها من خاف من هرقل، ومن ترك مذهبه ، وان الأسافقه الذين تركوا مذهبهم خوفاً أو ممالأه لهرقل عادوا إلى مذهبهم ، وأعيد بناء كنيسة القديس مرقص فى عهده، وهذا الحوار الرائع يعكس سماحة الإسلام الحقيقية، وهناك مؤرخ مسيحى آخر هو «يوحنا النقيوسى» كان معاصراً للفتح الإسلامى، ورغم تحيزه ربما يرجع لأنه رجل دين وكان أسقفاً لنقيوس لكنه ذكر ان جزءاً من الأهالى تعاون مع العرب الفاتحين ضد الرومان، كما ذكرت المصادر الإسلامية أن عمر يقوى كل يوم فى عمله ويأخذ الضرائب التى حددوها ولم يأخذ شيئاً من أموال الكنائس، ولم يرتكب شيئاً ما سلباً أو نهباً، وحافظ عليها طوال الأيام « وأشار إلى ان البعض دخل فى الإسلام لأنه رأى الإسلام سيتيح له وضعاً أفضل فى ظل الإسلام مع رفع عبء الجزية، وهناك من تعاون مع العرب ، ولم يترك دينه وهذا الغالبية ، فبعدما تعرضوا له من تعذيب على يد الروم والمقوقس رأوا انه من الممكن ان القادمين الجدد قد يحققون لهم وضعاً أفضل حالاً فيحترمون حريتهم الدينية، فالأهالى رأوا أفول نجم بيزنطة بعد الهزائم التى لحقت بها على يد الفرس ثم على يد الجيش العربى الإسلامى ففضلوا الانضمام إلى الفاتحين الجدد ، والبعض أراد الاحتفاظ بوظائفهم ومكانهم والقليل من انضم إلى بيزنطة فى مقاومة المسلمين . أما عن معاملة المسلمين فإن وثائق قبطية تشير إلى هبات مالية وعينية ومنشآت للكنائس فى الفترة الإسلامية فبعضهم وهب أبناءه لخدمة الكنيسة وبعضهم وهب أراضى ولم يمنعهم المسلمون، ولقد انتشر الإسلام تدريجياً وليس بالإجبار أو العنف. ولذا استغرق وقتاً ، خاصة بعد نزول العرب إلى القرى فى عصر الأمويين وامتزاجهم بالأهالى ، وعقود الزواج فى القرن الثانى الهجرى تشمل زيجات يحمل الزوج اسماً اسلامياً والزوجه تحمل اسماً إسلامياً وأبوها اسماً مسيحياً مثل زينب بنت يحنس مما يوحى بان الابنه قد دخلت الإسلام ، وهناك عقود الزوجان فيها يحملان اسماء مسيحية والعقد إسلامى مما يشير إلى إسلامهم ، فمن دخل الإسلام كان أصلاً مصرياً ومن ظل على دينه كان مصرياً هو الآخر فعملية الامتزاج لم تعد تفرق بين عربى ومصرى ، وساويرس لا يخفى اعجابه بعدد من الخلفاء المسلمين فيقول : ان هشام ابن عبد الملك كان رجلاً يخاف الله عن طريق الإسلام وسأل الله أن يثبت ملكه ، ويقول على الخليفة المعتز: كان فى مذهبه عفيفاً عارفاً بفرائض دينه عادلاً فى طريقه، وأنهم شكوا إليه أحد الولاة ، وهو ابن المدبر الذى منعهم من بناء الكنائس فسمح لهم ببناء الكنائس فى كل أرض مصر ، وثبت ذلك بسجل وأمر ان يعاد لهم ما أخذ من كنائس ، وجاء إلى الخليفة راهب يطالب برفع الجزية عن الرهبان، وكان فرضها أحد الولاة فأمر برفع الجزية وترك لهم الاحتفال بأعيادهم وكان يستشهد بآيات القرآن بألا تفرض جزية على الرهبان، وكذلك كان فى عهد الخليفة هارون الرشيد الذى أوقف بناء الكنائس فلما جاء عيسى بن موسى كوال سمح ببناء الكنائس التى خربت فى عهد الوالى السابق فبنيت كلها بمشورة الليث بن سعد وعبد الله بن أبى لهيعة اللذين قالا إنها من عمارة البلاد وأوضحا أن عامة الكنائس التى بنيت بمصر لم تبن إلا فى الإسلام وفى زمن الصحابة والتابعين، هذا يوضح مدى عدالة موضوعية الشرع الإسلامى . نفس الأمر فى العصر الأيوبى فإن صلاح الدين وقصته مع عيسى العوام الضفدع البشرى المسيحى العربى الذى كان يحمل الرسائل للمحاصرين فى عكا ، وحين مات وهو يحمل رسالة قال صلاح الدين : انه خدمنا حياً وميتاً ، و فى عهد خلفاء صلاح الدين اتبعوا سياسة التسامح تجاه أهل الذمة وأخو صلاح الدين السلطان العادل نال المسيحيون فى عهده العديد من المناصب الإدارية ، وقاموا بممارسة شعائرهم وقوانينهم دون تدخل الدولة الحاكمة وسمح الكامل بتجديد الكنائس . وهناك مجموعة قوانين تعرف بوثائق دير سانت كاترين لصدورها من سلطات الدولة لصالح هذا الدير، وشملت عهود حكام فاطميين وأيوبين ومماليك وفى مراسيم من عهد السلطانين العادل والكامل طلبوا من ولاتهما مراعاة المسيحيين ورهبان الدير ، وان يقوموا بحمايتهم « فطلب اقالة عثرتهم وكشف كربتهم ونص على ذلك لبطاركهم ورهبانهم وقسسهم وكهانهم وساكنى الصوامع ، وزهادهم والمنقطعين بالدير ومن عبادهم ويقدم عليهم من ارتضوا تقديمه، وطلب ان يتوخوا الحماية والحيطة، ويمنع من تعرض لأذيتهم وكذلك تتم رعاية من يأتى لزيارتهم وحمايتهم من إغارة العربان، وأن لا يكرهوا بمساكنة غيرهم، وان لهم أمانات الله ونبيه صلى الله عليه وسلم ، وهدد الوالى الذى يتعرض لهم بسوء العقاب، وأعفيت منتجاتهم من الثمار والزراعة من أى ضرائب . وكان رجل مسيحى يسمى يوسف البطيط من أهل القدس انتقل لدمشق وسكن فيها ، وخدمت عائلته أسدالدين بن شيركوه عم صلاح الدين ، ولما ملك صلاح الدين مصر أنعم عليه وأسكنه فى قصر الخليفة الفاطمى السابق فى قاعة معروفه بباب الذهب ، وكان يرسله كسفير إلى الملوك . أما عن قيام ثورات الأقباط فلم تكن ضد الإسلام بشهادة ساويرس ابن المقفع بل كانت ضد استبداد بعض الحكام، وهذا الاستبداد تعرض له المسلم و المسيحى على حد سواء فهى سياسة حاكم وظلم يمتد إلى المواطن أيا كان دينه، والدليل على ذلك ثورة البشامرة وهم من الأقباط وللأديبة سلوى بكر قصة رائعة عن البشمورى، ولقد اشترك المسلمون مع الأقباط أكثر من مرة ضد الولاة الظالمين نتيجة لزيادة الضرائب على الطرفين، وخاصة فى عهد ولاة للرشيد وابنه المأمون يقول شيخ مؤرخى مصر (المقريزى) انتفض أسفل الأرض كلها عربها وقبطها، وانهم اخرجوا عمال الحاكم وخالفوا الطاعة، وكان ذلك لسوء سيرة العمال فيهم، وكان رئيس الشرطة يقول للوالى موسى ابن رباح: إذا اشتد ظلمه على الأهالى سواء مسلمين أو مسيحيين: ارحم البلاد فيقول ما للناس إلا هذا، ولما حضر المأمون لمصر نتيجة لثورة المسلمين والبشمور عاقب واليه وقال له « لم يكن هذا الحدث العظيم إلا من فعلك وفعل عمالك حمّلتم الناس مالا يستطيعون وكتمتم عنى الأمر حتى تفاقم، واضطربت البلد» فالظلم كان للجميع والعدل حين يتحقق يتحقق للجميع ، ولقد ذهبت سيدة قبطية إلى الخليفة وطالبته أن يقبل ضيافتها هو واتباعه فى قرية طاء النمل، وقد أصرت على ضيافة الخليفة وألحت فقبل، وقدمت لهم الطعام ومنحها الخليفة أراضى فى منطقتها، وكانت هناك صلات مودة فى الأعياد. والمؤرخون المسلمون يقولون ان المسيحيين كانوا يهادون المسلمين فى العيد المسيحى المعروف بخميس العهد، وأطلق عليه خميس العدس آنذاك لأن المسيحيين كانوا يهادون المسلمين بالعدس المصفى والبيض وأنواع السمك ، وكانت هناك زيارات متبادله واحتفالات مشتركة، وكان أغلب أطباء الحكام من المسيحيين. هناك رابطة حقيقية من تاريخ وأرض تضم المصريين جميعاً رغم اختلاف الدين فالوطن واحد وللجميع حق فى هذه الأرض والإسلام دين التسامح « ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك» فالدين لله والوطن للجميع.