في وسط ساحة بنغازي التي طالب فيها المحتجون لأول مرة بسقوط الزعيم الراحل معمر القذافي ورفعوا العلم الخاص بالنظام الملكي قبل حكمه والذي أصبح رمزا لانتفاضتهم. وفي الشهر الماضي عاد المتظاهرون إلى النقطة ذاتها لكن هذه المرة في ليبيا خالية من القذافي. ورفعوا هذه المرة أيضا علما مختلفا يتوسطه نجمة وهلال باللون الأبيض على خلفية سوداء وهو علم شرق ليبيا. وأصبح هذا العلم لواء لحملة تهدف إلى حكم ذاتي للمنطقة مما أغضب القيادة الجديدة في ليبيا وأثار تساؤلات حول ما إذا كانت البلاد التي كانت محور تفاؤل كبير بعد الإطاحة بالقذافي من الممكن أن تحافظ على تماسكها بعد رحيله. ولشرق ليبيا وبنغازي المدينة الرئيسية فيها أسباب تاريخية في الارتياب في الحكم المركزي.
إذ انه خلال حكم الدولة العثمانية كان إقليم برقة ولاية منفصلة عن ولاية طرابلس إلى الغرب حيث توجد العاصمة الليبية حاليا. وضمت إيطاليا القوة الاستعمارية الولايتين لتصبح ليبيا موحدة في الثلاثينات. وبعد الاستقلال أصبحت بنغازي مقرا للنظام الملكي الليبي. لكن الشرق تم تجاهله بعد أن أطاح القذافي بالملك ادريس السنوسي عام 1969 وتخشى أن يكون الأمر ذاته يحدث حاليا مع تولي المجلس الوطني الانتقالي السلطة حاليا.
لكن هناك سببا أدعى لمطالبة الشرق بالحكم الذاتي الآن. فبعد سبعة أشهر من انتهاء حكم القذافي يبدو المجلس الوطني الانتقالي بالغ الضعف ومفتقدا للتنظيم لدرجة تحول دون فرض سلطته على البلاد مما يترك فراغا تشغله حلول محلية. وفي الوقت الذي تسعى فيه بنغازي إلى إدارة شؤونها تحدث الظاهرة ذاتها أيضا وإن كان بمظاهر أقل في مدن اخرى مثل مصراتة والزنتان في غرب ليبيا.
وقال العربي صديقي وهو أستاذ لدراسات الشرق الأوسط بجامعة اكستر البريطانية "الأجواء الحالية تنم عن فوضى هائلة... المجلس الوطني الانتقالي لم يعمل على التقرب إلى القلب الليبي. الوضع فوضوي. مصراتة تفعل ما تريد.. الزنتان تسيطر على المطار.. كل أنواع المطالب تطرح لهذه الحكومة وهي لا تستجيب لها".
ويمثل الجدل الدائر حول الحكم الذاتي لمنطقة دون أخرى أهمية للعالم الخارجي. وسيوفر وجود دولة فاشلة في ليبيا ملاذا لجماعات إسلامية متشددة وتهريب السلاح وتجارة المخدرات على أعتاب أوروبا. كما أنها من الممكن ان تعرض إمدادات الطاقة للخطر. وتضم شرق ليبيا أكبر حقول نفط في البلاد وتضخ شركة الخليج العربي للنفط وهي حاليا شركة تابعة للمؤسسة الوطنية للنفط 331 ألف برميل من النفط يوميا.
ومن بين الزعماء الذين يدعون لحكم ذاتي للشرق أبو بكر بويرا الذي اقترح أن بنغازي من الممكن أن تستخدم ثروتها النفطية في تحقيق أهدافها. وعندما سئل ماذا سيحدث في حالة عدم تنفيذ الحكومة في طرابلس للمطالب قال بويرا إنهم ربما يضطرون لوقف تدفق النفط. وينظر الكثير من الناس في شرق ليبيا الى الحاضر من زاوية ماضي اكثر رخاء فيما يبدو.
وطوال نحو عشر سنوات بعد استقلال ليبيا عام 1951 كان يجري إدارة البلاد طبقا لشكل اتحادي مع وجود ثلاث مناطق. وتم تداول السلطة بين برقة وولاية فزان الجنوبية وولاية طرابلس في الغرب. كانت بنغازي العاصمة التجارية لليبيا كما ان الشرق كان يحمل صفة موطن الملك ادريس وكذلك موطن الزعيم عمر المختار الذي قاد المقاومة للاحتلال الإيطالي.
لكن ليبيا بدأت تحويل الحكم إلى المركزي خلال السنوات الاخيرة من الحكم الملكي. وأسرع القذافي من العملية بعد أن قام بانقلاب عسكري في ليبيا لكن بالنسبة لبنغازي كان التراجع أكثر حدة وإيلاما. ولا تهبط رحلات جوية دولية تذكر في بنغازي كما أن المطار غالبا ما يكون مغلقا. ونقلت السفارات والمصالح الحكومية إلى طرابلس مع بقاء عدد محدود من القنصليات في بنغازي.
وفي مؤشر على الاستياء قاد معارضون من الشرق الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا التي كانت توشك على اغتيال القذافي عام 1984. كما أن تمردا إسلاميا ضد القذافي في التسعينات كان مصدره الشرق. ومع رحيل القذافي بدأ الشرق يتطلع للأفضل لكن بالنسبة لأغلب السكان كانت التجربة مخيبة للآمال. وهم يقولون إن الشرق تم تجاهله منذ أن غادر المجلس الوطني الانتقالي مقره المؤقت في بنغازي وانتقل إلى طرابلس في أغسطس الماضي.
وقال ناصر أهداش من الاتئلاف الوطني لثورة 17 فبراير إنه لا يطالب بالحكم الاتحادي لكنه يتفهم أيضا الإحباط الذي يشعر به أبناء الشرق. وقال "وجدت القيادة الجديدة هذا النظام الراسخ المستمر منذ أربعين عاما عندما تولت السلطة وهي ليست لديها الخبرة للتخلص منه... القيادة غير قادرة على اتخاذ قرارات ملموسة لانها تفتقر إلى الحوار مع الناس".
وفي الشهر الماضي جمعت مجموعة من زعماء المجتمع المدني من الشرق عدة آلاف من الأشخاص لتشكيل ما أطلق عليه مؤتمر شعب برقة. أصدر مؤتمر برقة بيانا تأسيسيا لليبيا الاتحادية تتولى فيه الحكومة المركزية المسؤولية عن مسائل مثل الشؤون الخارجية والطاقة والدفاع لكن من سلطة الشرق تحديد ضرائبه الخاصة وإدارة قواتها الشرطية ومحاكمها.
وفي الوقت ذاته يقول زعماء مؤتمر شعب برقة إنهم يريدون نقاشا حول النظام الاتحادي وإنهم يطالبون بتمثيل اكبر للشرق في جمعية وطنية جديدة من المقرر إجراء انتخابات لها في يونيو. واختار مؤتمر شعب برقة أحمد زبير السنوسي وهو قريب من بعيد للملك ادريس السنوسي باعتباره رئيسا رمزيا. وهو أقرب شخصية للملكية نظرا لأن الملك ادريس السنوسي كان عمه الأكبر.
وقال السنوسي الذي كان سجينا سياسيا خلال عهد القذافي إن مجرد وجود لغة واحدة ودين واحد لا يعني أن الشعب لن يظلمهم. وأضاف أنهم لا يمكنهم انتظار الحكومة الضعيفة حتى تقف على قدميها وإنهم وجدوا حلا لأنفسهم في النظام الاتحادي. ويمثل النظام الاتحادي خيارا جذابا لكثيرين في شرق ليبيا في الوقت الذي يسعى فيه المجلس الوطني الانتقالي للتأكيد على سلطته.
كان شكل السنوسي متميزا في زيه التقليدي عندما حضر تجمعا مؤيدا للحكم الذاتي في ساحة بنغازي. وقال السنوسي إن النظام الاتحادي سيساعد على وجود أثر حقيقي على الطريقة التي تجري بها إدارة منطقة الشرق. وأضاف أن طبيبا مثله من بنغازي ستكون امامه الفرصة أخيرا للسفر إلى الخارج والتعلم وإن ذلك لن يكون حكرا على طرابلس فقط.
ووقف إلى جواره حكيم عبد الجابر وقال إنه جاء إلى بنغازي ومعه 200 آخرين من بلدة اجدابيا المجاورة. وقال إنهم واخوانهم في الغرب واحد وإن العاصمة ستظل طرابلس لكن المجلس الوطني الانتقالي يظلمهم بنفس الطريقة التي فعلها القذافي لذلك فهم يحتاجون إلى العودة للنظام الاتحادي. وعندما قال مؤتمر شعب برقة إنه يريد بحث النظام الاتحادي والحكم الذاتي مع المجلس الوطني الانتقالي كان رد فعل طرابلس وكأن الشرق أعلن الاستقلال من جانب واحد.
وجرى وصف مؤيدي مؤتمر شعب برقة بالخونة والانفصاليين. وهاجم مصطفى عبد الجليل زعيم المجلس الوطني الانتقالي حملة الحكم الذاتي ووصفها بأنها مؤامرة خارجية وقال إنه سيستخدم القوة إذا تطلب الامر للإبقاء على ليبيا موحدة. وقال زعيم من مؤتمر شعب برقة إن ورقة تركت امام مكتبه في طرابلس تهدده بالقتل. حتى أن مفتي ليبيا هاجمهم.
وقال بويرا إنهم وصفوهم بأنهم انفصاليون وهذا ليس صحيحا. وأضاف ان المفتي انساق تماما وراء موقف الحكومة والناس يهاجمونهم في المساجد. ووصلت أصداء هذا الخلاف إلى روما حيث عقدت اولى القمم النفطية لليبيا بعد الانتفاضة. وفي الجلسة الافتتاحية اتهم ابناء الشرق بين الحاضرين المجلس الوطني الانتقالي بتجاهل المقاتلين من برقة الذين ترجع لهم الانتفاضة.
وفي اللحظات الحرجة التي أعقبت هذا الاتهام امسك متحدث بالميكروفون وحاول تهدئة الأجواء قائلا إنه ليست هناك أي مشكلة وهي ملاحظة أثارت استهجان الحاضرين. لكن بعد ذلك كان المجلس الوطني الانتقالي اكثر مهادنة. ووعد بعقد اجتماعه الاسبوعي في بنغازي في الأسبوع الأخير من كل شهر في محاولة لمواجهة اعتقاد بأن الحكومة منفصلة عن المنطقة.
وأجرى عبد الجليل منذ ذلك الحين محادثات مع مسؤول من مؤتمر شعب برقة لكن لم تكن هناك أي اتفاقات. ويعتزم مؤتمر برقة الآن اختيار مجلس تنفيذي من 300 عضو وهو ما قد يغضب طرابلس مرة اخرى. وقال بويرا إنهم يكرهون الانفصال وإنه من خلال النظام الاتحادي يمكنهم التوصل إلى ترتيب منظم لكن إذا لم يحدث هذا فإن كل منطقة ستمضي في طريقها".