لم تجرف الاضطرابات التى غمرت منطقة الشرق الأوسط سكان الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد يكون سبب ذلك أن الإصلاح المؤسساتى والأمنى والاقتصادى الذى شهدته الضفة الغربية فى الأعوام الأخيرة بإشراف الرئيس محمود عباس ورئيس الحكومة سلام فياض، لم يجعل أحداث «الربيع العربى» مصدر إلهام للثورة فى الضفة الغربية، على الرغم من الرفض الفلسطينى القاطع لاستمرار السيطرة الإسرائيلية على الضفة، والنقد العلنى، والحاد أحيانا، للسلطة الوطنية الفلسطينية، بسبب عجزها عن إحداث تغيير سياسى فى وضع الأراضى المحتلة وتحقيق حلم السيادة. وينطبق هذا الوضع أيضا على قطاع غزة حيث لم تمتد رقعة الاضطرابات، وإن كان ذلك لأسباب مختلفة، إذ جرى قمع كل أشكال التعبير عن التضامن مع المتظاهرين المصريين فى ساحة التحرير، الذين طالبوا برحيل نظام الرئيس حسنى مبارك، بقسوة شديدة من جانب قوات الأمن المحلية التى كانت تسعى لمنع تحول تظاهرات التضامن مع مصر إلى حركة احتجاج ضد نظام «حماس». مع ذلك، وإبان اندلاع الاحتجاجات الشعبية فى دول المنطقة، وربما بوحى منها، انطلقت مسيرات شعبية فى كل من الضفة الغربية وقطاع غزة طالبت بإنهاء الانقسام بين حركتى «فتح» و«حماس»، أى بين السلطة الوطنية الفلسطينية التى تقودها «فتح» فى الضفة الغربية، وبين سلطة «حماس» فى قطاع غزة. ولقد طُرحت الدعوة إلى المصالحة الوطنية على لسان المتظاهرين على أنها هدف قومى بعينه، ووسيلة لتقريب إنهاء احتلال إسرائيل للضفة الغربية.
وقد استجابت قيادتا «فتح» و«حماس» لهذه الدعوة. وفى ظل غياب أى إنجاز سياسى، سعت السلطة الوطنية الفلسطينية لتسوية الخلافات مع «حماس» من أجل توسيع قاعدة الدعم الشعبى لها. وعلى خلفية الجمود فى التسوية السياسية، اعتبرت السلطة الفلسطينية أن صورتها الدولية لن تتضرر بصورة جوهرية إذا هى توصلت إلى تفاهمات مؤسساتية مع «حماس».
من جهتها، رأت قيادة «حماس» أن الحوار بين الفصيلين هو وسيلة لتعزيز مكانتها خارج حدود قطاع غزة. إذ إن اندلاع الحرب الأهلية فى سوريا، وما رافقها من زعزعة لنظام بشار الأسد، هدد بتقويض مكانة «حماس» فى دمشق، فى الوقت الذى وعد فيه المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية، الذى حل محل نظام مبارك، بصد أى هجوم إسرائيلى على «حماس» فى قطاع غزة. 1 من هنا، وافقت قيادة «حماس» على توقيع اتفاقية المصالحة الوطنية مع حركة «فتح»، التى صاغ جهاز الاستخبارات المصرية بنودها الرئيسية منذ/ أكتوبر 2009، وذلك بعد أن كانت ترفض توقيعها بضغط من سوريا وإيران.
●●●
وبناء على ذلك يمكن القول إن أحداث الربيع العربى ساهمت فى إيجاد الأوضاع التى سمحت بتوقيع اتفاقية المصالحة الوطنية. وقد ركزت الوثيقة على الإعداد لإجراء انتخابات رئاسية وانتخابات المجلس التشريعى، وهى بالتالى لم تعبّر عن الرغبة فى المصالحة بين «فتح» و«حماس» بقدر ما عبرت عن رغبتهما فى مواصلة تنافسهما على الزعامة عن طريق الانتخابات. أما بالنسبة إلى الجمهور الفلسطينى، فقد تمت إزاحته جانبا بعيد توقيع اتفاقية المصالحة، فى الوقت الذى ركزت فيه قيادتا التنظيمين على محاولة بلورة تفاهمات تمكّنهما من إجراء الانتخابات فى موعدها المحدد فى مايو 2012.
هل ستتمكن قيادتا «فتح» و«حماس» من إنجاح العملية الانتخابية؟ وأى تنظيم سيكون الفائز فيها؟ وهل ستتمكن الحركتان من تجاوز خلافاتهما الحادة، الأيديولوجية والسياسية، والاتفاق على تقاسم الصلاحيات والنفوذ؟ لاتزال هذه الأسئلة من دون أجوبة. ومع ذلك، يمكن تقدير أنه حتى لو فازت حركة «فتح» فى الانتخابات، وتمكنت من تأليف حكومة، ستضطر السلطة الوطنية الفلسطينية المستندة إلى هذه الحركة إلى بذل أقصى جهودها لمنع «حماس» من محاولة زعزعة شرعيتها الداخلية والدولية، عن طريق تأجيج المواجهة العنيفة مع إسرائيل، من بين أمور أخرى.
وكما هو معروف، قد تندلع الاشتباكات بين المتظاهرين الفلسطينيين وقوات الأمن الإسرائيلية نتيجة حادث محلى يخرج عن السيطرة، عندئذ يتصدر نشطاء «حماس» هذه المواجهات بحيث يصعب على نشطاء «فتح» الوقوف موقف المتفرج. وقد برهنت حركة «حماس» فى الأعوام الأخيرة عن قدرتها على إشعال المواجهة، الأمر الذى كان يدفع إسرائيل إلى الرد عسكريا ويتسبب لها بانتقاد دولى، فضلا على أنه كان يسبب إرباكا للسلطة الوطنية لأنه يجسد عجزها إزاء ما يحدث فى قطاع غزة. وقد تندلع حركة احتجاج شعبى على خلفية الإحباط المتراكم من تباطؤ الحركة الدبلوماسية للسلطة الوطنية فى الأممالمتحدة.
فى كل الأحوال، لن يكون تجدد المواجهات نتيجة مباشرة للربيع العربى، فالساحة الإسرائيلية الفلسطينية لها ديناميتها الخاصة بها، إذ يستطيع سكان الضفة الغربية وقطاع غزة إعطاء دروس لجماهير المتظاهرين فى الدول العربية فى الانتفاضات الشعبية. لكن على الرغم من ذلك، فإن تجدد المواجهة سيؤدى إلى تآكل الفرصة، الضعيفة أصلا، فى تحقيق اختراق فى مسار التسوية السلمية. وسوف يُضاف هذا التآكل إلى تداعيات الاضطرابات التى سيطرت على منطقة الشرق الأوسط، التى باتت تشكل سببا من أسباب المأزق السياسى.
من هنا، فإن التخوف من قيام احتجاج شعبى عارم، بوحى من الإرادة التى أظهرتها الجماهير فى المنطقة، يجعل من الصعب على السلطة الوطنية التراجع عن مطالباتها لإسرائيل كشرط لاستئناف المفاوضات معها. من جهتها، ستمتنع إسرائيل من إعادة تموضع سيطرتها العسكرية على أراضى الضفة الغربية لمواجهة المخاطر والتهديدات الأمنية الناجمة عن صعود الحركات الأصولية فى الساحة الفلسطينية وفى المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، فإن تعاظم قوة الإسلاميين فى الدول العربية ستؤثر سلبا فى مدى استعداد الأنظمة القديمة والجديدة لتأييد استئناف المفاوضات الهادفة إلى إنجاز تسوية تاريخية. وسوف تساهم جميع هذه العوامل فى تقليص قدرة وإرادة الجهات الدولية، وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوروبى، على طرح مبادرة هادفة لاستئناف الحوار على جدول الأعمال.
●●●
من هنا، كل ما يبقى على إسرائيل والسلطة الوطنية فعله هو مواصلة التركيز على إدارة الصراع. والمقصود بذلك هو أن عليهما إدامة الجهد المشترك لمنع اندلاع الاحتجاج الشعبى فى الساحة الفلسطينية، الذى يمكن أن يتطور إلى مواجهة عارمة.
ومن شأن هذا السعى لمنع المواجهة أن يدفع حكومة إسرائيل إلى أن تبذل جهودا، على الرغم من الصعوبات السياسية المعروفة، ومن خلال السعى لاحتواء التهديدات الأمنية، للتخفيف عن كاهل سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، وذلك من خلال التوصل إلى تفاهمات مع حركة «حماس» فى هذا الخصوص. وحبذا لو تتراجع إسرائيل عن معارضتها المبدئية لتحسين العلاقات بين حركتى «فتح» و«حماس»، لإعطاء فرصة لتشكيل سلطة فلسطينية موحدة. ومن شأن أى تطور فى هذا الاتجاه أن يشكل ثقلا موازنا فى مقابل الاستعدادات القتالية وسط الجمهور الفلسطينى، وفى صفوف حركة «حماس» أيضا. وعلى السلطة الوطنية الفلسطينية أن تدرك جيدا أنه فى غياب حوار سياسى، ولو فى حده الأدنى، أى فى الموضوعات المتصلة بإدارة الصراع البحتة، فهى قد تواجه أمرا عسيرا من ناحية زعزعة ثقة الجمهور الفلسطينى بها، الأمر الذى قد يعرّضها لحركة احتجاج شعبى قد تنتقل إلى ساحة الصراع مع إسرائيل.
عندئذ، سيتم لجم النمو الاقتصادى والبناء المؤسساتى فى الضفة الغربية، وستتراخى قبضة السلطة الوطنية فى الضفة، الأمر الذى قد يمهد السبيل أمام «حماس» لتحقيق أسبقيتها فى الساحة الفلسطينية. كما أن تسلسل الأحداث فى هذا الاتجاه سيشكل مرحلة متقدمة فى تحصين المعسكر الإسلامى فى المنطقة، وسيساهم فى ابتعاد إسرائيل والسلطة الوطنية عن فرصة استئناف الحوار بينهما فى سبيل تسوية سلمية. وفى الوقت ذاته، يمكن تفسير هذا المسار بصفته تعبيرا فلسطينيا فريدا عن اتجاه يسود المنطقة حاليا، وقد أدت أحداث الربيع العربى إلى تسارعه، ولو بشكل غير مباشر.
من دراسة لمعهد الأمن القومى الإسرائيلى نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية