تستند دعوة الذين يطالبون بإلغاء قانون الخلع على ثلاث حجج خاطئة. أود أن القى الضوء على أوجه الخطأ فى هذه الحجج وما ينتج عنها من مغالطات. أبنى تحليلى التالى على: 1) نتائج دراسة بحثية قمت بها منذ عام 2007 وحتى 2010 عن قوانين الأحوال الشخصية التى صدرت منذ عام 2000. ولقد قمت بهذه الدراسة فى إطار عملى فى مركز البحوث الاجتماعية بالجامعة الأمريكية. 2) قراءاتى لعديد من الدراسات والأدبيات التى تناولت تاريخ وتطبيقات قوانين الأحوال الشخصية فى مصر. الحجة الأولى: هى انه يتحتم إلغاء هذا القانون لأنه تم طرحه وصياغته وإصداره من قبل النظام السابق وبإيعاز من السيدة سوزان مبارك. وردى هو أن هذا الادعاء باطل ومضلل لأنه لا يتطرق إلى الأسباب التى أدت إلى إصدار هذا القانون ولا إلى الدور الأساسى الذى لعبه ائتلاف من عدة فئات مختلفة من المجتمع المصرى فى إصدار هذا القانون. هذا الائتلاف شمل: ذوى الاختصاص والخبرة المهنية فى القضاة والمحاماة، مفكرين، أكاديميين، عاملين فى مجال التنمية المجتمعية، جمعيات حقوق المرأة، وعلماء وعالمات دين. واجتمعت جهود هذه الفئات الشتى على إيجاد حلول لمشاكل عويصة وخطيرة على ارض الواقع. ويمكن تلخيص أخطر هذه المشاكل فى الآتى: أولا: وجود مجموعة من الثغرات فى نظام المحاكم السابق لمحكمة الأسرة والتى نتج عنها تشعب وتعقيد إجراءات التقاضى، طول فترة التقاضى، والثمن الباهظ الذى يدفعه المتقاضون من مالهم ووقتهم وصحتهم النفسية فى عملية التقاضى. ثانيا: المعاناة الشديدة التى تعانيها المرأة المتقاضية، ولا سيما فى قضايا التطليق للضرر. فيما يخص إجراءات إثبات الضرر وطول فترة التقاضى والتى تمتد أحيانا لسنوات طويلة دون أن تنال المتقاضية الطلاق بسبب تعنت الزوج وسوء استغلاله لحق الاستئناف والنقض. نعم أيد النظام السابق إصدار قانون الخلع وغيره من القوانين الجديدة (وإن عرقل بعض التعديلات الأخرى التى كانت مطروحة والذى أدى إلى الحد من فعالية القوانين التى صدرت) ولكن الحقيقة الأهم هى أن هذه القوانين لم تكن من نتاج فكر سوزان مبارك أو نظام حسنى مبارك بل كانت نتاج جهود مصريات ومصريين سعوا من جهة إلى إقامة نظام قضائى متخصص باستحداث نظام محكمة الأسرة ومن جهة أخرى إلى رفع الظلم الواقع على المرأة بإصدار قانون الخلع. ●●● الحجة الثانية هى أن هذه القوانين تخالف أحكام الشريعة الإسلامية ولذا وجب إلغاؤها، وهذا أيضا ادعاء باطل. فلنأخذ مثلا قانون الخلع، فهو مثبت كحق شرعى للمرأة فى كل مذاهب الفقه الإسلامى. وكما هو معلوم أن الفقهاء الأوائل استنبطوا حكم الخلع من آية رقم 229 فى سورة البقرة، وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم فى واقعة امرأة ثابت بن قيس. وتشير الدراسات التاريخية عن مصر أن الخلع كان مقبولا من المجتمع المصرى ومتاحا للمرأة فى مختلف الحقبات فى تاريخ البلاد حتى القرن التاسع عشر. والغريب انه حين صدر أول قانون أحوال شخصية فى مصر الحديثة عام 1920 لم يذكر هذا القانون بتاتا أى شىء عن الخلع كأنه لا يمت بصلة إلى الفقه والشريعة أو تاريخ الزواج والطلاق فى هذا الوطن! الذين يعترضون على قانون الخلع الحالى يدعون أن جمهور الفقهاء أجمعوا على تعريف الخلع على أنه التطليق الذى يتراضى عليه الزوجان مقابل عوض مادى للزوج بما أن الزوجة هى التى ترغب فى الانفصال. أى أن الفقهاء الأوائل –حسب حجة المعترضين- اشترطوا موافقة الزوج على طلب الخلع وهو عكس ما اقره المشرع المصرى فى القانون الحالى. ولكنى أود أن أشير إلى نقطتين مهمتين غفل المعترضون عن ذكرها وهما: أولا: نعم عرف جمهور الفقهاء الأوائل الخلع على أنه نوع من التطليق المبنى على التراضى بين الزوجين إلا أنهم حذروا أيضا من الأزواج الذين يتعنتون ويعرقلون سعى الزوجة إلى الخلع كما حذروا من الأزواج الذين يدفعون زوجاتهم إلى الخلع حتى يتنازلن عن حقوقهن المادية. ورأى الفقهاء أن على ولى الأمر (أى القاضى) فى هاتين الحالتين أن يرفع الظلم عن الزوجة وُيمكنها من مخالعة الزوج فى الحالة الأولى أو الحصول على حقوقها المادية فى الحالة الثانية. أن التراضى بين الزوجين الذى أشار إليه الفقهاء الأوائل لم يكن شرطا مطلقا لا جدال فيه، بل كان غاية هؤلاء الفقهاء هو أن يتحقق العدل وإذا تعنت الزوج كان من حق المرأة أن تلجأ إلى القاضى ولزم على الأخير رفع الظلم عنها وتطليقها. وعلى نفس المنوال تشير مادة 20 فى قانون رقم (1) لعام 2000 الخاصة بالخلع إلى أن على الزوجين أولا أن يتراضيا على الخلع فإن لم يتمكنا من ذلك أجاز المشرع للزوجة أن تطلب الخلع من المحكمة. ثانيا: وحتى إن صح أن الفقهاء الأوائل اجمعوا على انه لا يجوز أن تحصل امرأة على الخلع دون موافقة الزوج هل هذا يعنى أن هذا الحكم الفقهى غير قابل للنقاش والمراجعة؟ أرى أحيانا خلطا بين الفقه والشريعة فى طرح البعض لاعتراضهم على الخلع أو غيره من القوانين. الشريعة كما أفهمها هى ما شرعه الله لعباده من مبادئ وأحكام واضحة لا التباس فيها بنص القرآن، وأما الفقه فهو نتاج فهم الفقهاء لما شرعه الله من خلال اجتهادهم فى تفسير مصادر الشريعة (أى القرآن والسنة). وهذا الفهم فى الأول والآخر جهد إنسانى قابل للنقاش والمراجعة. فى حالة الخلع مثلا، لا تشير الآية رقم 299 فى سورة البقرة إلى وجوب موافقة الزوج. كما انه لا يوجد فى حديث الرسول ما يشير إلى ضرورة موافقة الزوج. ويستند الذين يزعمون بعدم شرعية قانون الخلع إلى بعض الروايات لهذا الحديث حيث يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم كلامه إلى ثابت بن قيس ويقول له «طلقها»، فيدَعون أن توجيه الرسول كلامه للزوج دليل على أن الأخير بيده أمر إنهاء العقد، كما يزعمون أن أمر الرسول إلى ثابت هو حكم ندب لا وجوب. وبصرف النظر عن صحة هذه الروايات، دعونا نركز على المُحصلة لهذه الواقعة وهى أن الرسول أمر بإنهاء هذه الزيجة بناء على طلب الزوجة ودون أن يناقشها فى الأسباب التى دفعتها إلى طلب الخلع، أو يحاول أن يثنيها عن طلبها. ●●● يبقى أن نشير إلى أن المقصد من الخلع سواء فى النص القرآنى أو حديث الرسول أو فى قوانين الأحوال الشخصية هو أن يوازى حق الرجل فى الطلاق بإرادة منفردة. فالمشرع يعطى الرجل الحق فى إنهاء الحياة الزوجية بإرادة منفردة وحتى إن لم يقع عليه أى ضرر من الطرف الآخر ولكنه فى المقابل يلزم الزوج فى هذه الحالة أن يعوض الطرف الآخر الذى سيقع عليه الضرر من جراء هذا القرار المنفرد والعوض هنا مادى متمثل فى نفقة المتعة (بالإضافة إلى نفقة العدة ومؤخر الصداق) نفس المنطق ينطبق على الخلع. تنهى المرأة الحياة الزوجية بإرادة منفردة وحتى إن لم يقع عليها أى ضرر من الزوج وفى المقابل يلزمها المشرع بتعويض الزوج بالتناول عن مؤخر الصداق، نفقة العدة، نفقة المتعة، وأن ترد للزوج مقدم الصداق. ولكن هل يحدث هذا على أرض الواقع؟ تشير نتائج الدراسات البحثية الحديثة التى أجريت على قضايا الخلع إلى أن اغلب المتقاضيات يلجأن إلى الخلع كحل بديل وسريع ومضمون واقل تكلفة من التطليق للضرر. أى أن هؤلاء المتقاضيات لديهن مبررات قانونية قوية تؤهلهن إلى رفع تطليق للضرر ولكنهن لا يملكن المال والوقت للسعى إلى هذا الحل. إذن فقانون الخلع الحالى حقق بعض المنفعة للمرأة المصرية لأنه اوجد حلا مضمونا ومتاحا للخلاص من حياة زوجية بائسة ومدمرة للمرأة ولكنه من جهة أخرى لم يعط المرأة بالفعل حقا موازيا لحق الرجل فى الطلاق بإرادة منفردة فى ظل الإشكاليات والثغرات الموجودة فى المواد القانونية والتطبيقات الخاصة بقضايا التطليق للضرر. ويعترض البعض على القانون الحالى للخلع لأنه حسب زعمهم لا يحقق العدل فى العوض المادى الذى يحصل عليه الزوج. وهذا الاعتراض معنى بإشكالية مبلغ مقدم الصداق الذى يتم كتابته فى عقد الزواج وإذا كان هذا المبلغ المدون يتوافق مع المبلغ الذى دفعه الزوج فى الواقع. مرة أخرى تشير الدراسات البحثية إلى أن الظلم الذى قد يقع على الزوج أو الزوجة فى حالة الدفع بصورية مقدم الصداق يرجع إلى عدم وجود آليات واضحة وفعالة فى القوانين الحالية،والتى تمكن القضاة من الفصل فى هذه النزاعات بصورة عادلة. ولكن هناك جانبا آخر لهذه الإشكالية ينتج من التباين بين منظومة الزواج كما تقره قوانين الأحوال الشخصية والحقيقة التى يعيشها الرجال والنساء المتزوجون. فحسب قوانين الأحوال الشخصية يتكفل الزوج بدفع المهر إلى الزوجة ويؤثث منزل الزوجية وينفق على الزوجة والأطفال. أما فى الواقع كما نعلم جميعا يتقاسم الزوجان تكاليف تأثيث منزل الزوجية وعادة لا تأخذ الزوجة المهر بل ينفق على تأثيث منزل الزوجية. كما أن كثيرا من النساء يتقاسمن مع أزواجهن مسئولية إعالة الأسرة. بل إن هناك أعدادا متزايدة من الأسر المصرية التى تقوم فيها الزوجة بإعالة الأسرة لان الزوج لا يعمل أو يعمل بصورة متقطعة أو هجر منزل الزوجية لفترات طويلة وامتنع عن الإنفاق. وأخيرا هل أدت قوانين الخلع إلى زيادة معدلات الطلاق وانهيار الأسرة المصرية؟ فهذه هى الحجة الثالثة التى تستند إليها الدعوة إلى إلغاء قانون الخلع. يذكرنا الذين يرون أن هذا القانون حطم الأسرة بأنه تقع حالة طلاق كل ثلاث دقائق حسب بعض الإحصاءات الرسمية. الخطأ فى هذه الحجة يأتى من افتراضين اثنين كليهما يجانبهما الصواب وهما: أولا: حين يستخدم البعض إحصاءات الطلاق فى طرح فكرة انهيار الأسرة المصرية قلما يذكرون أن الإحصاءات المذكورة تشمل كل أنواع الطلاق (أى من قبل الزوج والزوجة). بل إن بعض الإحصاءات الرسمية الأخيرة أكدت ان الغالبية العظمى من حالات الطلاق من طرف الزوج، كما ان نسبة الخلع لا تتعدى 3% من اجمالى حالات الطلاق المرصودة. ثانيا: يفترض هؤلاء أن إتاحة حق الخلع هو الذى يؤدى إلى انهيار الحياة الزوجية بينما الحقيقة هى أن فى كثير من قضايا الخلع التى درستها فى أبحاثى والتى قرأت عنها فى دراسات أخرى تكون الحياة الزوجية قد انهارت بالفعل وأحيانا لسنوات عديدة وقبل أن تلجأ الزوجة إلى الخلع. بمعنى أن هناك عوامل معقدة تؤدى إلى النزاعات بين الزوجين ثم انهيار الحياة الزوجية مثل عدم إنفاق الزوج على الأسرة لفترات طويلة، عدم وجود مسكن زوجية مستقل وإقامة الزوجين مع أهل الزوج أو الزوجة، العنف الواقع على الزوجة من قبل الزوج، هجر الزوج لمنزل الزوجية، تعدد زوجات الرجل مع عدم الإنفاق. ●●● إذا أردنا أن نحافظ على الزواج ونحد من الطلاق، علينا أن نسأل أنفسنا أولا أى نوع من الحياة الزوجية تستحق الحفاظ عليها؟ الحياة الزوجية السوية التى يتحقق فيها المودة والرحمة وهما المقصد من الزواج فى القرآن الكريم، أم الزواج الذى يسود فيه العنف ويشعر الطرفان فيه بالعجز والتهميش والعداء فى علاقته مع الطرف الآخر؟ وأخيرا علينا أن نسأل أنفسنا: هل نواجه الأسباب الحقيقية التى تضعف من الزواج كمؤسسة اجتماعية وعلاقة أسرية سوية؟ أم ندفن رؤوسنا فى الرمال ونحاول أن نسلب المرأة أحد الحلول القليلة المتاحة لها للخلاص من حياة زوجية لا ترضاها بل وتشقى فيها؟ فلنتذكر قول المولى عز وجل «إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان». اتقوا الله فى مواطنات مصر