عبقرية الزمان والمكان، إنها بالأحرى عبقرية العنوان الذى اختارته الفنانة جاذبية سرى لمعرضها الفردى رقم 71، وهو «الزمان والمكان». فبعيدا عن المقولات الطنانة والمقاربات السريعة التى تربط اليوم العمل الفنى بتعبيره عن الثورة، عن طريق معايير شكلية مثل ألوان العلم أو التكتلات البشرية والرموز الدالة على الثورة وغيرها، وبعيدا عما تناولته الصحف حول تنبؤ جاذبية سرى بالثورة مبكرا فى إحدى لوحاتها، التى صارت كليشيها يصاحب الفنانين ممن هم أقل قامة من جاذبية سرى، فإن مسيرة الفنانة كاملة هى تقطير للثورة الفنية والتطور الدءوب الذى امتد فى معارضها التى تتجاوز السبعين، هذا التطور الذى يجعل لوحاتها المعروضة اليوم فى قاعة الزمالك للفنون تعبيرا طبيعيا لمصر اليوم بعد 25 يناير، أى الزمان والمكان، أو «الزمكان» كما قال أصحاب النظرية الأدبية، فى إشارة إلى الصراع الأبدى وشديد الارتباط بين الزمان والمكان. فالعلاقة المتجددة دائما بين الزمان والمكان على أرض الواقع تجعل من المستحيل أن تكرر الفنانة رؤيتها فى عالمها الفنى حتى وإن كانت فى مراحلها الفنية المتأخرة تنحو إلى التجريد وإلى محو تفاصيل الشكل البشرى وتفاصيل الشكل الهندسى للبيوت لتقدم بيوتا تم «أنسنتها» أو اختلطت ملامح المكان والوطن بملامح البشر التى تدب فى عروقهم الحياة.
فالمكان لا يمكن أن يظل على حاله وثباته واستقراره مع مرور الزمن، فمياه النهر متجددة دائما من لحظة لأخرى، وبالتالى لا يمكن أن يظل التعبير عن أجواء الحلمية الجديدة التى نشأت فيه الفنانة وتأثرت بها قديما فى لوحاتها فى الخمسينيات هى نفسها اليوم (مثل لوحات الاستغماية والحجلة وأم رتيبة والطيارة التى أهدتها الفنانة لمتحف المتروبوليتان بالولايات المتحدة)، وهى المرحلة التى أطلق عليها النقاد الواقعية الاجتماعية. ولا يمكن أن تستعيد الفنانة مرحلة التعبيرية التجريدية التى شكلت عالمها فى الستينيات عندما قدمت أشكالا هندسية مجردة وتمحورت حول تيمة الصحراء أو حول قضايا ذهنية، ولا يمكن أن تسترجع مرحلة ما بعد النكسة، حين كانت بدايات الدمج بين الناس والبيوت التى امتدت حتى اليوم، لكنها كانت بيوتا نحيلة تقطر حزنا وفجيعة.
اليوم تستكمل جاذبية سرى الخط التجريدى الذى صكته بمفردات تخصها وحدها، تعيد الدمج بين الشكل المربع الهندسى النافذة أو البيوت مع الوجوه البشرية لكنها تبدو أكثر خفة وكأن الحيوية قد دبت فيها من جديد، وكأن النصرة للعنصر الإنسانى دائما وأبدا. وفى بعض اللوحات الصغيرة الحجم تجدها قد حنت للبعد الاجتماعى القديم الذى كان يميز أعمالها، فترى الشخصيات ذات الخطوط التجريدية كما لو كانت فى حوار حميمى وتواصل شفيف. اليوم تطلق الفنانة العنان للفراغ على سطح اللوحة، هذا الفراغ الذى بدى فى معرضها السابق منذ عامين كما لو كان نزعة حداثية تعكس أسطورة العمل الفنى الذى لا يتم أبدا ولا يصل إلى منتهاه إلا ربما فى ذهن المتلقى، أما اليوم فقد صار الفراغ فى بطولة متساوية مع الكتلة كما لو كانت تشير وتبرز وتؤكد وتحتفى بالوجود الإنسانى حين نرى علاقته بالفراغ من حوله. فى معرضها اليوم تضيف إذن بطلين اللون الصريح الذى يعلن عن نفسه بجسارة كما لو كان بطلا هو أيضا مع هؤلاء الناس الذى سكنوا اللوحات، والبطل الآخر هو الفراغ. ألم يقل أحد الفنانين قديما إن الهدف الأولى والأزلى للتصوير هو إبراز الفراغ؟
تجلس الفنانة هناك وسط ال13 عملا من الزيت على توال، فى القاعة الأنيقة، فخورة بوليدها الجديد تبتسم أحيانا وتصرخ أحيانا أخرى، معتبرة أنها قدمت كل ما لديها فى تلك اللوحات وعلى الزائر الفطن أن يلتقط الرسالة كلٌ حسب ثقافته.