لا يمكن اعتبار إقامة معرض جديد للفنانة جاذبية سرى عابرا، لأنه يكاد يكون حدثا وطنيا إذا اعتبرنا أن أجيال الرواد فى مصر هم قامات كبرى نحرص عليها وعلى الاحتفاء بها. فهى فعليا آخر من تبقى من الجيل الثالث من رواد الفن التشكيلي المصرى، ارتبط اسمها بتاريخ الحركة التشكيلية منذ أربعينيات القرن الماضى، وكانت إحدى أعضاء جماعة الفن الحديث، وزاملت جماعة الفن المعاصر بالقرب من عبدالهادى الجزار وكامل التلمسانى وغيرهم. ويجدر بنا أن نحتفى أيضا باقتناء متحف المتروبوليتان للفن بنيويورك على لوحتها «الطيارة» فى أبريل الماضى حيث سكنت فى القسم الخاص بالفن الحديث والمعاصر فى أحد أهم المتاحف فى العالم. ويأتى معرض جاذبية سرى وعنوانه «تجسيد» بقاعة الزمالك بالقاهرة ليكون سببا جديدا للاحتفال لا يقل أهمية عن سابقيه، لأنها ببساطة تقدم وهى فى الخامسة والثمانين من العمر ثلاثين عملا جديدا أنتجتها ما بين عامى 2008 و2009. كثيرون غيرها يقومون باجترار أعمال الماضى أو إعادة كشف المنسى منها، أما جاذبية سرى فتفاجئ جمهورها بعطائها الذى لا ينضب وبتصميمها على التجريب اللامحدود وارتياد مناطق جديدة تنبض بالمعاصرة. وليس أدل على ذلك سوى هذا العمل الفنى شديد الحداثة والذى تصور فيه شريطا رأسيا يتوسط اللوحة تملؤه الخطوط والدوائر المتداخلة بكثافة تصور حشودا بشرية متكدسة بينما على جانبى الشريط لا يغطى اللون البرتقالى الهادئ السطح كاملا، بل فقط ثلاثة أرباع المساحة حتى أنها تتراءى للمشاهد كما لو كانت فى انتظار من يأتى ليتمها. هل هى اعتراف ضمنى من الفنانة بأن العمل الفنى يظل فى حالة فعل و«حدوث» مستمر وأن اللوحة الفنية لا تعرف أبدا نقطة النهاية؟ أم أنها أرادت أن تكشف للمتلقي فى معرضها الذى يحمل عنوان «تجسيد» مفردات العمل الفنى وكواليسه، وكيف يقوم الفنان بعملية التجسيد، من مجرد خط إلى تكوين فنى، ومن مجرد سطح أبيض عذري إلى طاقة لونية مقتحمة، أى تصحب المشاهد لعملية الإبداع ذاتها؟ فهى القائلة كما ورد فى إحدى دراسات الناقد إيميه آزار عنها أن العمل الفنى هو «معمل مفتوح». فى معرض «تجسيد»، عبر هذه الدفقة الفنية التى تقدمها جاذبية سرى صاحبة المراس الفنى الذى يمتد إلى 62 عاما، تتجاوز الفنانة كل المراحل الفنية، لا تقع أسيرة مراحلها الفنية مثل مرحلة الحياة الشعبية أو القيم الوطنية فى الخمسينيات والستينيات، أو مرحلة الناس والبيوت التى تميل إلى التجريدية فى الثمانينيات، بل تمزج بين المراحل المختلفة، تحاول أن تقدم «تجسيدا» مصفى لمشوارها الفنى، انتهت مرحلة الحياة الشعبية بألوانها الزاعقة المفرحة، لكنها تركت وميض ألوانها على المراحل اللاحقة. وتحولت جدلية البيوت والبشر التى تتماهى تماما فى أعمالها السابقة، ما بين رءوس البشر المستطيلة والدائرية وما بين قباب البيوت وخطوطها الهندسية الصارمة، تحولت بصورة واضحة إلى كيانات تتجسد وشخصيات من دم ولحم. فتعكس العديد من اللوحات ميل الفنانة فى أعمالها الحديثة إلى الحس الدرامى، حيث نلحظ المشهدية وتصوير المواقف الإنسانية من خلال تكوينات رباعية لأشخاص فى مواقف مختلفة، كما لو كانت تنم عن رغبتها فى السرد والرواية. وتطورت ثنائية الإنسان والمكان أو البشر والبيوت لتضم بعدا فلسفيا جديدا تصور من خلاله الفنانة هذه الكيانات حبيسة شكل مستطيل معلقا فى الفراغ الكونى الفسيح، حاملة تأويلات عديدة حول الصورة التى نبدو عليها، وتلك التى تملى علينا، وحاملة تساؤلات الفنانة الفلسفية حول المصير الإنساني.