أول ما ينبغى عمله عند زيارة معرض الفنان فاروق حسنى بقاعة الفن بالزمالك هو نسيان ولو لبعض الوقت أن الفنان هو نفسه وزير الثقافة، أى فصل المنصب العام عن الإبداع الفنى للتمكن من تذوق العمل الفنى وتكوين فكرة مستقلة عنه. وهو بالطبع تمرين تصعب تأديته لكنه ضرورى، لن يعكر صفوه إلا كلمات الإطراء المجانية التى نطالعها هنا وهناك، أو تقديم المعرض بصفته الحدث السنوى الذى ينعقد فى مطلع كل عام كما لو كان الإبداع الفنى له لوائح وميقات محدد لا يحاد عنه، أو كأنها عادة سنوية أن يفتتح القائم على الثقافة والفنون الموسم الفنى بعرض أعماله. وللتمكن من هذا التمرين ومن التفاعل مع الأعمال، ينبغى التسلح بالأدوات اللازمة عند زيارة المعرض الذى يضم 28 لوحة من الأكريلك، حتى يتسنى لك «فهم» اللوحات. غير أن فعل «فهم» هنا غير دقيق، أى أنه قد يزعج نقاد الفن والفنانين المعاصرين، لأن الفن التجريدى لا يقاس ويقدر بمدى الفهم، بل بالتفاعل مع الشحنة الشعورية والانفعالية التى تنعكس لدى المتلقى عند مشاهدته للأعمال، فالفن التجريدى أو اللاشكلى هو الرغبة الحرة فى عدم إعادة إنتاج المشهد الواقعى، أو كما قال الفنان الروسى «فاسيلى كاندينسكى» الذى أطلق أو اللوحات التجريدية فى ميونخ فى 1910 هو «تحرر الفن من التبعية المباشرة للطبيعة»، أى أنه يتخلى عن الأشياء الملموسة وعن الطبيعة بصورتها الواقعية ليعيد إنتاجها من جديد بشكل استعارى يستفيد خلالها الفنان بالحالة الشعورية واللاوعى ويعتمد على الحدس مبتعدا عن العقلانى المنطقى. وفى إطار هذه الخلفية أصبح الفن التجريدى الذى يحتفى بالجانب الروحى غير محدد الملامح، أى أنه أصبح مقترنا بأسماء بعينها تنبع من كل منها خصائص وملامح تفردها عن غيرها من التجريديين، فمنهم من يعتمد على الأشكال الهندسية والرموز التى تستدعى الزمن والذاكرة، مثل خوان ميرو أو بول كليه، ومنهم من يعتمد على اللون كمصدر للطاقة ومفجر للحالة الشعورية مثل كاندنسكى الذى سعى لمحاكاة الاتساق اللونى فى اللوحة لهارمونى المقطوعة الموسيقية، فقد أدرك كاندنسكى شابا فى أعماله التعبيرية الأولى أن قوة المجموعة اللونية المستخدمة فى اللوحة هى وحدها التى تحدد تأثير العمل، كما ورد فى كتاب (فاسيلى كاندنسكى، رحلة إلى التجريد). هذا الاعتماد على قوة تأثير اللون هو ما عنى به فاروق حسنى منذ بداياته، صحيح أن لوحاته لا تخلو من الأشكال الهندسية والرمزية، إلا أن اللون كان دائما البطل التعبيرى من ناحية، ومحدد الهوية من ناحية أخرى، أى أنه محددا للصخب والتناقض من خلال مجموعات الأحمر والأصفر والأزرق التى عرف بها الفنان، وهو فى الوقت نفس استدعاء للون الصحراء والإضاءة المصرية ومجموعات الألوان الترابية التى يلجأ إليها حتى وإن لمع بريقها بعض الشىء. فاللون الأصفر الذى يسيطر على العديد من أعمال معرضه الحالى كان الناقد الإيطالى إنزو بيلارديلو قد ربطه برمز الذهب الفرعونى أو الحضارة المصرية القديمة صاحبة آلاف السنين. أما لماذا عرج الفنان فاروق حسنى إلى الأعمال التجريدية بعد بداياته قصيرة الأمد مع التشخيصية، فيفسرها الناقد الفنى الرفيع مختار العطار قائلا: «بدأ الانتقال اللاشكلى عند فاروق حسنى دون أن يدرى، كان احتياجا إبداعيا أراد به أن يصور أشياء لا يمكن رسمها وتلوينها بالطرق التقليدية، التى يعتمد على محاكاة عناصر الطبيعة المرئية، التى تشكل قيود فنانى السنوات الختامية للقرن العشرين، فكل المعنويات والجمال من بينها لا يمكن تجسيدها إلا بالرمز والإشارة ولقد استشعر فاروق حسنى مثل هذا الجمال الذى يستعصى على الكلمات والأنغام، ذات صباح من عام 1969، حين هبط على أوروبا لأول مرة، واكتحلت عيناه بضروب من المشاهد التى لم يعهدها من قبل. اشتعل خياله لمرأى السحب والجبال والأشجار والأزهار التى تتوزع فى كل مكان. واجتاحته رغبة للرسم والتلوين لكن أين هو الأسلوب الذى يستوعب كل هذا السحر والجمال وينقله إلى الورق؟ كان كالظمآن الذى يريد أن يشرب النهر كله!». ما الذى يميز تجربة الفنان اليوم عن أعماله السابقة (حيث يمكن للمتلقى أن يطلع على المراحل الفنية للفنان عبر الموقع الإلكترونى الخاص به ومقارنتها بعضها البعض)؟ الاجابة على هذا السؤال ليست قاطعة لأنه يعتمد على حرية التلقى، إذ يميز الفن التجريدى أنه ينطلق من وعى الفنان الحر ليتقابل مع مستويات التلقى المختلفة كل حسب تاريخه ومخزونه الثقافى، أى أنه قد يجد المتلقى فى الأشكال المثلثة الحداثية بامتياز والتى تتكرر فى لوحات الأسبانى تابييس على سبيل المثال ارجاعا للهرم أو قد يحيله إلى عالم ميتافيزيقى يألف مفرداته فى الرموز الشعبية، وقد يعتبر متلقى آخر الشكل العمودى المفضى إلى سهم قريبا من فكرة الطريق، والتوجه إلى المستقبل، وقد تتخذ بعدا فلسفيا يقرنها بالخروج والخلاص. أما من حيث الشكل، فسيجد المتلقى بالضرورة بعض الملامح التى تخص هذا المعرض بعينه مثل عودة تيمة البحر الذى يعكس ولع الفنان السكندرى بالمتوسط، لكنه فى هذه المرة لا يكتفى بالاشارة إلى اللون الأزرق التركواز كما كان يفعل فى السابق، لكنه قد يتجلى فى شكل المراكب الصغيرة على خلفية ترابية بنية فاتحة فى إحدى اللوحات ليتجسد موضوع البحر بشكل أكثر رمزية. أى أن أعمال فاروق حسنى فى هذا المعرض رغم الخطوط الهندسية الحادة التى قد تصادفها فى معظم الأعمال، إلا أنه يطلق لمشاعر الحنين أن تفيض من اللوحات، فتفيض عبر التعاريج الإنسانية المقابلة للشكل الهندسى، وعبر الأطر البيضاء التى تضع بروازا «متوهما» لوحات كما لو كانت قد خطتها يد طفل، فضلا عن المساحات اللونية الكبيرة بالمقارنة بالأشكال والرموز الهندسية، ليطرح طاقة إنسانية جديدة.