عندما تحدث الفنان فاروق حسني وزير الثقافة عن مفهومه للمثقف.. وقد ربطه بمعرفة الشخص بمذاهب الفن والأدب منذ نشأتها- إنما كان يتحدث عن وجه واحد من وجوه المثقف، وهو الوجه المعرفي، فالثقافة في أحد مكوناتها معرفة بأسباب الحياة والوجود والمعارف الإنسانية، وبقوانين التطور ونظريات الفكر، وكذلك بالاتجاهات الأدبية والفنية ومذاهبها عبر العصور، لكن الوجه الأهم هو الخبرة الثقافية الناتجة عن معايشة تلك المنتجات النابعة من عقول المبدعين ومواهبهم بمذاهبهم ونظرياتهم، بما يؤدي إلي الوعي بما وراءها من قيم ومعان إنسانية، وإلي القدرة علي التمييز بينها، وإلي اتخاذ موقف علي ضوئها تجاه الحياة والوجود والأفكار السائدة، بل وتجاه القيم والأخلاق والأذواق، فيتحول الإنسان من صاحب ذاكرة معرفية يتم فيها تخزين المعلومات لتبقي في حالة سكون، إلي حالة متطورة ومتفاعلة، تولدت عبر الاحتكاك والإدراك لقناعات فكرية وذائقة جمالية، وباتت قادرة علي الانتقال من منطقة القناعة الذاتية بما يؤمن به صاحبها، إلي منطقة المشاركة الفاعلة لتغيير الواقع وتسييد معاني الحق والخير والجمال. مثقفون بالاسم فقط وفي هذا الإطار قد نجد بين المثقفين أناسًا لم يدخلوا المتاحف أو المسارح، بل ولم يقرءوا كتب الأدب والشعر والتاريخ والفلسفة، بل قد نجد أميين يمتلكون وعيًا عظيمًا بالحياة والوجود وبقضايا المجتمع وطبائع النفوس، أو حسًا عاليًا بالفن والجمال، بل قد يمتلكون قدرة رائعة علي الإبداع فنًا وأدبًا وشعرًا.. فهل يمكن أن نعتبرهم غير مثقفين؟.. وهل يمكن أن نستبعد من دائرة المثقفين آلاف الرسامين والنحاتين الفطريين والشعراء الشعبيين وصناع الملاحم المجهولين والعازفين والممثلين الارتجاليين وسواهم؟. أرجو ألا يفهم من ذلك أنني أقلل من أهمية التعليم والمعرفة المنهجية، أو أنني لا أفرق بين من يعرف ومن لا يعرف، بل علي العكس، فإن واجبنا- كدولة وكمثقفين معًا- أن نعرف من لا يعرف، وأن نجعل العملية الثقافية طائرًا بجناحين لا يغني أحدهما عن الآخر، وهما المعرفة والخبرة، بوجوههما المتعددة من فكرية وجمالية ومجتمعية، عبر التفاعل علي أرض الواقع. لقد كان تعليق الوزير أحد تداعيات سرقة لوحة فان جوخ من متحف محمد محمود خليل، واحتجاج بعض المثقفين علي ما آلت إليه بعض أوضاع العمل الثقافي من انهيار، وخاصة المتاحف.. وبعيدًا عن تعريفات المثقف، فإن الوزير اعترف بالحالة المزرية لتلك المتاحف، وهو بهذا يقف علي أرض مشتركة مع المنتقدين لهذه الأوضاع بكل تصنيفاتهم، بل ومع الرأي العام كله في مصر، ويبقي أن نبحث جميعًا عن سبل لإنقاذها والنهوض بها، من منطلق وطني يتجاوز مفهوم المحاكمة للمسئولين عن ذلك الانهيار، تاركين ذلك للقضاء. وقد تبدو المقدمة الطويلة السابقة، حول معني المثقف، بعيدة عن قضية النهوض بالمتاحف، لكنها في الحقيقة شديدة الارتباط بها، وذلك إذا اتفقنا علي الهدف من وجود المتاحف أصلاً.. فهل نري المتاحف مجرد خزائن لحفظ المقتنيات وأبنية لعرض الأعمال الفنية وتأمينها ضد السرقة والإهمال وإتاحة رؤيتها للزائرين نظير رسم معلوم؟.. من المؤسف أن يكون هذا هو المفهوم المعتمد لدي وزارة الثقافة للمتاحف الفنية وغير الفنية في مصر منذ إنشائها، حتي لو افترضنا توفر شروط الأمان والجاذبية في أساليب العرض، تلك التي غابت عنها طويلاً، وهذا المفهوم نفسه هو الذي أدي إلي غياب المثقف المعرفي- بمفهوم الوزير- حتي أن الأغلبية الساحقة من خريجي الجامعات بل ومن أساتذتها (ناهيك عن عامة الشعب) لا يعرفون شيئًا عن المذاهب الفنية، بل ربما لم يقوموا بزيارة لأي متحف في حياتهم، وهو نفسه الذي أدي إلي بقاء عشرات المتاحف خالية من الجمهور، وقد تمر علي البعض منها أسابيع دون أن يتردد عليها أحد، وقد علمنا جميعًا أن عدد الزائرين لمتحف محمد محمود خليل يوم اكتشاف السرقة كان تسعة، منهم ثمانية من الأجانب وطالبة مصرية واحدة! .. ومن ثم: فليس من المستغرب أن ينظر المجتمع كله، ومن قبله الدولة، إلي إنفاق عشرات الملايين من الجنيهات علي هذه المتاحف ومئات الملايين الأخري المطلوبة لاستكمالها وتطويرها، علي أنه إهدار للمال العام، في الوقت الذي تعجز فيه الدولة عن تدبير الأموال اللازمة لبناء المدارس في مراحل التعليم المختلفة لأبناء الشعب في جميع البلاد، ناهيك عن بناء الجامعات والمستشفيات وعشرات المرافق الأساسية الضرورية لحياة المواطنين، وعن معالجة العشوائيات التي باتت عارًا علي مصر! متاحف ولكن إن مشروعية المطالبة بتخصيص هذه الملايين من ميزانية الدولة لا تتأتي إلا من القناعة بحقيقة أولية: وهي أن المتحف ضرورة للمجتمع لا تقل عن المدرسة والجامعة والمستشفي ومشروعات البنية الأساسية وإنقاذ سكان العشوائيات.. فهل هو كذلك؟.. بالطبع لا، حتي مع افتراض أنه في وضعه المثالي، ويكفي أن يقال إنه لا يتردد عليه إلا بضعة أفراد، بل يمكن حتي أن تغلق المتاحف جميعًا بدون أن تتأثر حياة المجتمع وخطط التنمية، وفي هذا السياق فإن الدولة تبدو معذورة في عدم الاستجابة لتخصيص 400 مليون جنيه لبناء متحف الجزيرة وتطوير المتاحف الأخري، علي عكس ما تفعله بالنسبة لمشروع المتحف الكبير بمنطقة الأهرام الذي يقام برعاية مباشرة من رئيس الجمهورية، ومتحف الحضارة بمنطقة الفسطاط الذي يقام برعاية السيدة حرم الرئيس، وهما يوفران للمشروعين هذه الرعاية لاقتناعهما بالعائد الثقافي والسياسي والاقتصادي أيضًا علي مصر من ورائهما، وتلك هي المعادلة الصعبة غير المتحققة بالنسبة للمتاحف الفنية والتاريخية القائمة التي يبلغ عددها 29 متحفًا. كيف يمكن أن يتكون لدينا المثقف- حتي بمفهوم الوزير- بينما كل فئات الشعب لا تعرف الطريق أصلاً إلي هذه المتاحف بين القاهرةوالإسكندرية وبعض عواصم المحافظات؟.. كيف يكتسبون «المعرفة» بما تشمله من فنون ورؤي واتجاهات.. بل حتي من تاريخ وطني لبعض زعماء الأمة الذين أقيمت المتاحف لتخليدهم؟.. ما هي الضرورة لهذه المعرفة بالنسبة لأي منهم وهم يلهثون تحت سياط ضرورات الواقع المريرة، ويعيشون في ظل حالة من الخواء الفكري والثقافي؟.. هل حاول أحد «استزراع» هذه الضرورة في نفوسهم منذ الصغر؟.. إن البيت المصري ينظر إلي مثل هذه الفنون كلغو فارغ، وربما كرجس من عمل الشيطان، والمدرسة بكل مراحلها التعليمية لا شأن لها بهذا الأمر في ظل عجزها عن الوفاء بضرورات العملية التعليمية الأساسية، وحتي حصص التربية الفنية باتت (خارج نطاق الخدمة) منذ زمن بعيد، وأجهزة الإعلام لا تري من الفن إلا المسلسلات ومواد الترفيه الغنائية والسينمائية، والشوارع والمباني والساحات العامة مرتع لكل مظاهر القبح والفوضي والعدوان علي الذوق والبصر، ولو اقتربنا أكثر من ذلك، إلي وزارة الثقافة، مالكة هذه المتاحف والمسئولة عن الارتقاء بثقافة المجتمع وبذوقه الجمالي، فلن نجد لديها ولو سلسلة كتب واحدة لنشر الثقافة التشكيلية- لا للكبار ولا للصغار- بعد أن توقف، لأسباب مجهولة، إصدار سلسلة آفاق الفن التشكيلي بالهيئة العامة لقصور الثقافة منذ سنوات وسنوات، ولم تكن لديها- حتي أقل من عام مضي- مجلة للفنون التشكيلية، هذا إذا سلمنا جدلاً بأن مجلة «الخيال» التي أصدرتها الهيئة مؤخرًا تصل إلي خارج دائرة المتخصصين، وعددهم يحسب في خانة المئات، ثم إذ بنا نقرأ في الأخبار عن بروتوكول تعاون بين وزارتي الثقافة والتربية والتعليم لتنظيم زيارات لطلبة المدارس إلي المتاحف.. متي؟.. عام 2010 (ألسنا متأخرين بعض الشيء؟!).. ويا لسخرية القدر: فقبل أن يجف مداد الاتفاقية صدر الأمر بإغلاق أهم المتاحف بعد أزمة «زهور الخشخاش»! رُبَّ سائل: لكن الدولة والمجتمع انتفضا في هزة عنيفة إثر اكتشاف سرقة هذه اللوحة في شهر أغسطس الماضي.. ألا يدل هذا علي اهتمام عميق بأهمية المتاحف وما تضمه من مقتنيات؟.. نعم.. ولكن من أي ناحية؟.. فلنتخيل أنه لم يُعلن سعر لوحة فان جوخ- وهو 55 مليون دولار- هل كانت تتفجر كل هذه الضجة وما تبعها من تداعيات أودت بعشرة مسئولين بقطاع الفنون التشكيلية إلي وراء القضبان في انتظار المحاكمة؟.. أشك كثيرًا!.. فالقيمة التي استوقفت انتباه الجميع واستدعت اتخاذ هذه الإجراءات ليست هي القيمة الفنية للوحة، بل هي قيمة تلك الملايين من الدولارات، وهي الشيء الذي يمكن أن يستوعبه كل من الدولة، والمجتمع في ظل المناخ القيمي والظروف الصعبة التي تعيشها البلاد علي جميع الأصعدة، بينما يقول المنطق الحضاري إن سرقة أي عمل من أي متحف- حتي ولو كان لفنان مصري- لا يقل في دلالته عن سرقة لوحة لفنان عالمي.. والفرق هنا هو مستوي الوعي الثقافي للمجتع والدولة في آن. محو الأمية ثمة علاقة جدلية بين الضرورة والوعي، فقد يكون الشخص أميًا ولا يشعر بضرورة أن يتعلم، لكنه عندما تؤذي مشاعره نظرة المجتمع المتدنية إليه، أو عندما يعي بالمزايا التي سوف تعود عليه حال محو أميته، تنشأ لديه الضرورة للالتحاق بأحد فصول محو الأمية. وفي حالتنا، فإن الضرورة والوعي بأهمية الثقافة الفنية غير موجودين، والأمية الثقافية- ومن ثم التشكيلية- تصل إلي 99% أو أكثر، دون وعي لدي أصحابها بضرورة محوها.. وتسليمنا بهذه الكارثة كأمر واقع كفيل بأن يحبط أي جهود للإصلاح، أو أي أمل لكسب مساحات للنهضة الثقافية والذوقية في المستقبل. لكن التسليم بهذا الأمر الواقع ليس من حق المسئولين عن السياسة الثقافية أو الفنية. والسؤال الفارق هنا هو: هل يمكن صنع الضرورة الثقافية في ظل الظروف والمتطلبات القاسية للواقع التحتي للمجتمع؟.. وأظن أن هذا سؤال ينطبق علي جميع مجالات الفن والأدب والثقافة الأخري، فبوسعنا أن نلاحظ تدني عدد المشاهدين للعروض المسرحية والسينمائية الجادة، وتدني عدد النسخ المباعة من كتب الأدب والفكر، وعدد المترددين علي معارض الفنون التشكيلية، ناهيك عن تدني عدد المترددين علي قصور الثقافة خارج نطاق المهرجانات الفلكلورية في المناسبات وعدد المترددين علي المكتبات العامة.. لذلك أري أن السؤال المحوري الذي ينبغي أن يهتم بالإجابة عليه مؤتمر المثقفين المزمع عقده أواخر هذا العام. إذا أخذنا المتاحف نموذجًا، فإنني أعتقد أن بالإمكان صنع الضرورة بشأنها بالنسبة للدولة والمجتمع، بشرط أن يتغير مفهوم المتاحف لدي وزارة الثقافة أولاً، من كونها أماكن للحفاظ علي المقتنيات الفنية وتوفير وسائل الأمن اللازمة لها وعرضها أمام الزائرين بشكل جيد، إلي مفهوم آخر يجعل من كل متحف مؤسسة ثقافية متكاملة لبناء وعي الإنسان وفكره وذوقه وملكاته الإبداعية، واعتزازه برموز وطنه وتراثه الحضاري، شأنه شأن المدرسة والجامعة وقصر الثقافة سواء بسواء، ولن يتم ذلك إلا عبر استراتيجية جديدة تقوم علي أسس تنموية وحضارية.. وعلي خلق علاقة تفاعلية بين المتحف والمجتمع، بحيث يصبح جزءًا من عملية التغيير والحراك الثقافي والمجتمعي.. ويمكن تطبيق ذلك علي أرض الواقع بإفساح المجال لتنظيم أنشطة فنية وثقافية موازية للعرض المتحفي تقام في أماكن مخصصة لذلك أمام الكافة، وتجمع بين العروض السينمائية والموسيقية والمسرحية، وورش الإبداع الفني لتنمية المواهب للأطفال والكبار، يصاحبها إصدار مجلات ومطبوعات متصلة بالفنون وتذوقها، وخلق مجموعات «الفيس بوك» علي الإنترنت.. إن كل ذلك وغيره كفيل بأن يصنع «حالة مجتمعية» متفاعلة مع الشباب والجمهور عامة. الناس والمتحف وفي ظروف مجتمع مثلنا ينبغي ألا نكتفي بانتظار أن يأتي الناس إلي المتحف، بل ينبغي العمل علي نقل المتحف إلي الناس، عبر الأقراص الالكترونية التي ينبغي أن تباع بأسعار رمزية في شتي منافذ البيع حتي في «السوبر ماركت» مثل الألبومات الغنائية، ويضم كل منها أعمالاً تمثل اتجاهًا أو مذهبًا فنيًا أو مجموعة من الفنانين في حقبة تاريخية معينة، مصحوبة بتعليق صوتي جذاب يكتبه أحد النقاد أو الأساتذة المتخصصين، ويمكن أن يكون ذلك هو الخطوة الأولي لتطبيق بروتوكول التعاون مع وزارة التربية والتعليم بحيث يسبق دعوة التلاميذ لزيارة المتاحف تقديم الجرعة المتحفية إليهم في مدارسهم، وفقًا لبرنامج يراعي قدرات الاستيعاب الفني لدي كل مرحلة دراسية. ويتواكب مع ذلك نشر إعلانات للدعوة لحضور كل حدث فني يقام في المتحف عبر أجندة شهرية يصدرها هذا المتحف بمواعيد وأنواع الأنشطة، ويتواكب مع اتفاقية التربية والتعليم اتفاقية أخري مع وزارة الإعلام، تقضي بتخصيص برامج للثقافة التشكيلية وبعرض الثروة المتحفية بشكل منتظم في مختلف القنوات التليفزيونية. غير أن العامل الأكثر فعالية للانتقال بالمواطن من منطقة الوعي إلي منطقة الاحتياج والضرورة، هو إتاحة الفرصة أمامه لاقتناء نماذج مطبوعة بشكل جيد وحجم مناسب وسعر رمزي من الأعمال المتحفية.. إن صاحب البيت أو المكتب الذي اعتاد أن يعلق لوحة علي جدرانه، لن يقبل بعد ذلك أن يبقي مكانها خاليًا، بل سيعمل علي أن توضع إلي جوارها لوحات أخري لو هيأت له الدولة الحصول عليها بجنيهات يسيرة، مثلما يحدث في كل متاحف الدول المتقدمة.. إن ثقافة الصورة باتت إحدي حقائق العصر، وهي لا تفرق بين «غني وفقير»، ومهمتنا الرئيسية هي دراسة الكيفية والإمكانات لتوفيرها لجميع الطبقات والأذواق. ويستتبع ذلك- في الاستراتيجية المقترحة- تأسيس نوادي الأصدقاء لكل متحف، ويمكن أن تتشكل منهم رابطة ثقافية وإنسانية أيضًا تتسع دوائرها باستمرار، فكل صديق للمتحف لن يكف عن السعي لكسب أصدقاء جدد بقدر نجاحه في أن يحقق ذاته عبر الأنشطة الفنية الموازية بالمتحف، من ورش عمل وأحداث فنية وكتابات علي مواقع الإنترنت وغيرها. ولا يُغني ذلك كله عن عامل آخر، وهو خلق حوافز خاصة لزيادة رقعة المهتمين بالمتاحف من الجمهور، عبر إقامة مسابقات نوعية مستمرة علي غرار مسابقات مشروع القراءة للجميع في الرسم والنحت والأبحاث المرتبطة بالمذاهب الفنية والأعمال المتحفية. إن تنظيم حملات قومية علي أعلي مستوي لهذا المشروع كفيل بأن يحقق وعيًا جديدًا بالفنون التشكيلية، وليكن تحت عنوان «المتاحف للجميع». عقم في الأسلوب ولا ننسي هنا دور الكليات والمعاهد الفنية، التي يدرس الطلاب فيها تاريخ الفن بأساليب عقيمة لا تساعد في تشكيل ذهنية خلاقة متفاعلة مع الفنون ومرتبطة في ذات الوقت بالمجتمع، ولذا يمكن إعداد اتفاقية ثالثة مع جامعة حلوان وغيرها ممن تضم كليات ومعاهد فنية، لتنظيم إقامة ورش عمل وملتقيات فنية، وتتوزع أماكن إقامتها بين المتاحف والكليات، فهؤلاء الشباب هم الأقرب إلي أن يصبحوا بعد سنوات معدودة شرايين التواصل الجمالي والذوقي مع المجتمع، إن لم يكن باتصالهم المباشر بمحيط عملهم أو معيشتهم، فعلي الأقل ببناء أنفسهم بناء يساعدهم علي الإبداع، وعلي أن يكونوا القاعدة الأولي للتغيير الذوقي للمجتمع. وتبقي مسئولية الإنفاق علي كل هذا علي الدولة بالأساس، لكن لا ينبغي إغفال دور المؤسسات المالية من بنوك وشركات، وكذا رجال الأعمال الذين ينهضون بالدور الأكبر في تمويل المتاحف بدول العالم المتقدمة، ولن يتم ذلك إلا بتغيير ثقافتهم الاستثمارية، لتتحول إلي قناعة بالمشاركة في بناء الإنسان والارتقاء بذوقه وثقافته، مثلما يشاركون في المشروعات الاقتصادية أو الخدمية، وفي هذا السياق لابد من توفير الحوافز لهم من جانب الدولة، مثل الخصم من الضرائب أو تسمية بعض القاعات الخاصة بالأنشطة المتحفية بأسمائهم وغير ذلك. لكن.. هل بوسع وزارة الثقافة المثقلة بما لا يحصي من الأعباء الملحة، أن تقوم بذلك كله؟.. أعتقد أن هذا غير ممكن، خاصة في ظل الإمكانات المالية والبشرية المحدودة أو المعوقة.. فمشروع كهذا مشروع قومي واستراتيجي يتطلب عقولاً وتمويلاً وخبرات ولوائح وقوانين بعيدة عن البيروقراطية.. لهذا أري أن تحقيقه يتطلب إقامة هيئة قومية مستقلة عن أي وزارة، وتابعة مباشرة لجهة سيادية، وأظن أن مكتبة الإسكندرية نموذج مناسب تقام الهيئة المقترحة علي غراره، وأن رئيسها ينبغي أن يكون في قامة رئيس المكتبة.. فكرًا وثقافة واختصاصات، وقد سبق لي طرح هذا الاقتراح فور وقوع حادث السرقة بمتحف محمد محمود خليل، ولدهشتي قرأت لاحقًا نفس الاقتراح تقريبًا علي لسان الفنان محسن شعلان في تصريحات نقلت عنه من محبسه ومؤخرًا علمت بأن الفنان أحمد نوار كتب نفس الاقتراح أيضًا بجريدة الأخبار بعد ذلك.. فلا أعرف إذا كان ذلك توارد خواطر أم ماذا!! أدرك أنني أحلم.. لكن أليس بالحلم تبدأ دائمًا المشروعات الكبيرة؟