يعشش الاستبداد فى الذهن المصرى، حتى إن الكتاب الشهير عن الاستبداد مكتوب ومطبوع فى مصر، بعد أن هرب عبدالرحمن الكواكبى من الشام إلى مصر، التى لم تكن تحت سلطة العثمانية أيام السلطان عبدالحميد، ليكتب كتابه المهم: «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد». ومن وقتها أدرك المصريون أنهم يعيشون عصور استبداد بامتياز، حتى أصبح الاستبداد ومعه الفساد أقوى المؤسسات، لا يستطيع أحد أن يفككها. وأعتقد أن راشد الغنوشى أدرك هذه النقطة «الاستبداد» فى الجزء الثانى من كتابه «الحريات العامة فى الدولة الإسلامية»: أهم تحد يواجه كل نظرية سياسية للحكم هو كيف يمكن منع الجور؟ كيف تصان الحريات العامة؟ ذلك أن كل إنسان يملك سلطة يميل إلى إساءة استعمالها حسب تأكيد مونتسكيو (فى دولة القانون)، وإن طبيعة القوة الاعتساف، وأن المانع من الاستبداد كثيرا ما كان العجز عن ممارسته. إنما العاجز من لا يستبد. كما يقول الشاعر العربى عمر بن أبى ربيعة، فكيف إذا كان يتصرف فى طاقات واسعة من الأموال والأعوان؟ هل يكون لاستبداده من حد؟.
وبعد تقدمه تعريفات لمفهوم الاستبداد فى الماركسية والديمقراطية الغربية، تحدث عن ضمانات عدم الجور فى التصور الإسلامى للدولة الإسلامية، التى طرحها بعض الأسئلة التى يتخوف منها البعض من قيام مثل هذه الدولة.
ومثال على هذا التخوف ما يطرحه بعض المهتمين بما يعرف ب«الإسلام السياسى» كالمستشار محمد سعيد العشماوى، الذى يجلس الآن فى عزلة، يكتب لأحد المواقع المهمة التى تصدر من فرنسا، الذى كتب أكثر من مرة عن الدولة الإسلامية: «لكنهم لم يحددوا أىَّ إسلامٍ يريدون: هل هو إسلام السنّة أم إسلام الشيعة؟ هل هو الإسلام المصرى السمح الوديع أم إسلام ابن تيمية والوهابية المتشدد العنيف؟ هل هو إسلام البداوة كما كان فى القرن الأول للهجرة، أم إسلام الحضارة الذى اكتمل واستقر فى القرنين الرابع والخامس الهجرى، وأقام حضارة تفتخر بها الإنسانية جميعا حتى اليوم؟». ولكن تشعر وأنت تقرأ كتب الغنوشى، أنه يتحدث وفى باله تجربة إسلام الحضارة، بدليل أنه يتحدث كثيرا عن ضمانات الحرية، ووضع غير المسلمين فى الدولة الإسلامية، وكذلك حقوق الإنسان.
لكن هذا لا يغفل أننا يجب أن نناقش الغنوشى وغيره فيما يخص الشريعة الإسلامية، والخوف من تطبيقها.
كثيرون، ممن لهم ثقل فكرى، يؤكدون أن هذه الشريعة الإسلامية وهى الأحكام التى نزلت من عند الله فقد اختلطت بالفقه وهو عمل صدر عن الناس. وقد أدرك النبى احتمال اختلاط حكم الله بحكم الناس، فقال لعامل له يدعى بريدة «إذا حصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزل على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدرى أتصيب حكم الله فيهم أم لا». كما قال على ابن أبى طالب لأعوانه: «لا تجادلوا الخصوم بحكم من القرآن، لأن القرآن حمّال أوجه (أى متعدد الرؤى)، وقال إن القرآن لا ينطق بلسان». ومفادُ ذلك أن من يدعى أنه يعمل على تحقيق الإسلام وتطبيق الشريعة، لا يلجأ إلى الغموض والفتن لكى يُثبّت المظاهر والتنظيم والتعصب، وإنما عليه أن يُهيئ كل إنسان لكى يكون مؤمنا يقرّ الإيمان فى قلبه.
ويفك الغنوشى كل هذه الأسئلة والتخوفات، حيث يشير فى خلاصته أن التأمل واقع البلاد الإسلامية المطحونة بالدكتاتورية يكشف عن أن المشكل لا يُمثل فى إقناع المسلم بالديمقراطية والمشاركة فى السلطة، وإن تكن علمانية، من أجل تحقيق أهداف مشتركة كالتضامن الوطنى، والحقوق والحريات، والتنمية ودفع مخاطر الاحتياج والتهديد الصهيونى وتحرير فلسطين، وما إلى ذلك، وإنما يكمن المشكل أساسا فى إقناع الآخر، أى الأنظمة الحاكمة، بحق أو مبدأ سلطة الشعب، وبحق الإسلاميين على قدم المساواة مع غيرهم فى حرية العمل السياسى ومنها المشاركة فى السلطة.
وإن ما حصل، بتعبير الغنوشى، فى تونس والجزائر من معاقبة الفائزين الإسلاميين فى الانتخابات بمباركة القوى الديمقراطية الغربية، ونخبة ثيولوجيا التفكير العلمانى المحلية المتحالفة مع أنظمة الحكم القهرى، يردنا إلى أصل المشكل وسبب كل بلاء: الاستبداد، كيف السبيل إلى مقاومته؟
وفى رده على سؤال أحد الصحفيين حول هذه النقطة التى تخوف الناس: «سنركز بالدرجة الأولى على تنمية الداخل بغية سد الفوارق بين الساحل الغنى ومناطق الداخل. ولكننا لا ننوى إطلاقا أن نفرض الإسلام على الشعب التونسى ليس بمعنى أن نفرض عليه ما يأكله، أو ما يشربه، أو ما يرتديه، أو ما يؤمن به».
كان السؤال التالى يلح على الواحد وهو يقرأ كتب الغنوشى: هل من الانصاف عرض أفكار الغنوشى المتطورة فعلا فى كتبه دون التعرض لما يثيره من جدل يعرضه كبار الكتّاب والمفكرين حول تصرفات الرجل التى تقف ضد الديمقراطية، ومواقف غير مبررة فى موقفه مع الدول الغربية؟. وكيف اعترف الغنّوشى فى كل مقابلاته الصحفية أن مساهمة حركته (النهضة) فى انتفاضة تونس كانت «ضئيلة»! ثم تحوّل اليوم إلى وصى على حركة الشعب التونسى؟. اقرأ مثلا ما كتبه الصحفى اللبنانى المقيم فى فرنسا بيار عقل عن الغنوشى الأمريكى الذى: «لا يتحدث عن «إزالة إسرائيل»، ولا يطالب حتى ب«قطع العلاقات الدبلوماسية معها»، ويصادق على معاهدات تونس السابقة مع «حلف الأطلسى» (تونس «أطلسية» مثل تركيا). ثم إنه كان دائما (!) ضد اللغة الخمينية التى تطلق على أمريكا تسمية «الشيطان الأكبر».
واللافت للنظر أن الغنوشى يقول كلاما معسولا فى تصريحاته ككتبه، مريحا وهو يؤكد أن مشروعه المزاوجة بين الإسلام والحداثة فى إطار قيم الحرية والمساواة والمواطنة، وصريحا حينما يتحدث عن مظاهر الاستبداد فى تاريخ الإسلام، حيث يقول: «لا يمكن لأحد أن يبرهن على أن الإسلام قد شرع الاستبداد؛ لأن تعاليم الإسلام كلها حرب على الظلم ودعوة إلى العدل. حتى ذهب فقهاؤه إلى أنه حيث العدل فثمّ شرع الله، إلا أنه أشار إلى نقطة جدلية خلافية، بها إنكار شديد لما وصل إليه العرب من فساد واستبداد بدلا من تعليق هذا على شماعة الغرب، فهو أكد أن أبشع الاستبداد الذى عرفه تاريخنا إنما هو فى هذه العصور التى غدت شرعية الحكم فى العالم الإسلامى لا تُستمد من الإسلام وأمته، بل من الولاء والتبعية للغرب، متسائلا: «فبم يفخر العرب المعاصرون وأنصار الحداثة الغربية؟ وبم يستطيلون على الإسلام وتجربته فى الحكم؟». ولا يجوز أيضا أن نقبل بأى شكل من الأشكال رأيه الواضح الذى يقوله فصله الثانى أن الإسلام يستوعب الديمقراطية وترشيدها ليكون الحكم للشعب مستضيئا بالقانون الإلهى. ونعيد مرة أخرى، ما هو القانون الإلهى؟ ومن الإنسان، أى إنسان، الذى يكون قادرا على تطبيق هذا القانون أو فهمه ومن ثم تطبيقه؟، وكيف نحمى كلام الله من كلام الناس. وهى النقطة التى تسأل: أىُّ إسلامٍ يريدون؟ أو أن هذه الشريعة الإسلامية وهى الأحكام التى نزلت من عند الله فقد اختلطت بالفقه وهو عمل صدر عن الناس.. فكيف نفرق؟
ومن المفيد هنا أن ننشر الجزء الخاص ب«الحركة الإسلامية مع الديمقراطية، ولكن»، يذكرها الغنوشى فى جزئه الثانى من كتاب الحريات العامة، حيث لا يجوز معها الاقتباس المخل، كعادة بعض عروض الكتب، لهذا ننشرها كاملة فى السطور التالية.
الحركة الإسلامية مع الديمقراطية.. ولكن؟
خلاصة الخلاصة لما فكرت فيه واقتنعت به وعملت من أجل إنجازه والدعوة إليه منذ زمن بعيد، لم أجد خيرا له فهما وأدق وأبسط عنه تعبيرا من كاتب فلسطينى مقيم فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، انتفى من مقاله الجيد فى صحيفة سيارة هذا المقطع: «طموح السيد راشد الغنوشى زعيم حركة النهضة أثار سؤالا ربما أثار بعض الإسلاميين آنذاك، ولكننا الآن نفهمه فى إطار إعادة التكوين وإعادة تقويم مواقفنا، إذ إننا لا ندعى بانتسابنا إلى الإسلام النزاهة والصواب»، قال: إذا ما طرحت أنا وبرنامجى وحركتى و«إسلامى» على الشعب التونسى ورفضنى، فماذا ستكون النتيجة؟ سأنسحب بكل روح رياضية وسأستأنف المعركة فى السنوات المقبلة ممارسا عملية الإقناع. سأعرض نفسى، فإذا ما رفضت سأستأنف وسائل الإقناع المعروفة.
إذا كنت أؤمن بأن الشريعة الإسلامية ينبغى أن تطبق بحذافيرها من جهة، وأؤمن بالديمقراطية فلا تناقض، لأنى أريد أن أقدم اقتناعاتى للشعب حتى يقبلها أو يرفضها، فإذا رفضها انسحبت إلى المعارضة ومارست وسائل الإقناع الأخرى التى هى التربية والتكوين والإعلام والتوجيه والتعليم. ثم عندما أحس أن الشعب قد اقتنع أرشح نفسى لجولة مقبلة، فإذا ما رفضت، فأنا قابل أن أمضى إلى ما لا نهاية، وذلك لأنى أؤمن أن الديمقراطية اعتراف بالجميع، الديمقراطية مساواة وتداول على السلطة، واشتراك فى الثروة وإطلاق لحق المبادرة الاقتصادية وحق الشعب فى أن يختار بين مختلف المشروعات من دون أى وصاية. الديمقراطية ليست أن تختار معارضيك وإنما أن تروض نفسك على الحوار والتفاهم معهم. الديمقراطية كالشورى ليست مجرد أسلوب فى الحكم للتعبير عن إرادة الأغلبية أو الإجماع، وإنما أيضا منهاج للتربية وعلاج للتطرف بالحوار.
فهل يتفهم النظام الغربى المعاصر هذا التوجه الإسلامى الصادق لاحترام قواعد اللعبة الديمقراطية؟ أم أن الأمر كما ذكر السيد جون سبوزيتو: نشجع التحول الديمقراطى إلا أنه من الناحية العملية هناك شرط واحد ألا ينتصر الإسلام فى الانتخابات الديمقراطية!!.
إن الإسلام يملك القدرة على استيعاب الصيغة الديمقراطية وترشيدها فى اتجاه أن يكون حكم الشعب مستضيئا بالقانون الإلهى، لاسيما أن تنامى توجه الإسلاميين نحو الديمقراطية ملحوظ. فإذا كانت الديمقراطية الغربية مرجعية عليا هى القانون الطبيعى، كما يقول د. محمد عمارة، فنحن المسلمين نضع الشريعة الإسلامية مكانه، الديمقراطية الإسلامية تعطى كل السلطة للأمة بشرط ألا تحل حراما ولا تحرم حلالا، ولكن واقعنا أعقد من ذلك، ويحتاج إلى أبسط من ذلك. يحتاج إلى حلف فضول بين سائر النخبات، أن نحترم جميعا حرية الإنسان، أن نحترم إرادة شعوبنا، وأن نكون صادقين فى ذلك، وعندئذ سنستريح جميعا اليوم أو غدا.. وإلا: بالأمس لبنان واليوم الصومال وأفغانستان والعراق والجزائر ومصر، والبقية فى الطريق إذا تمادينا على هذا الطريق. نداء الله إلينا جميعا: «يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا».
ولا يملك الباحث ختاما إلا أن يؤكد ما انتهى إليه من أن الحرية وحقوق الإنسان ليست فى الإسلام شعارات أملتها الضغوط وموازين القوى، بل هى عقائد وشعائر دينية يتربى عليها ناشئة المسلمين، لم يضعها حزب ولا دولة ولا طبقة ولا شعب لتثبيت امتيازات خاصة، وإنما هى شرائع ملزمة وضعها رب الناس لكل الناس، ودعاهم إلى العمل بها بوصفها واجبات وليس مجرد حقوق، وأشعرهم برقابته عليهم وأنه محاسبهم عليها، وأهاب بهم إلى التعاون فى أشكال مختلفة، منها رقابة بعضهم وإقامة حكومة عادلة ليس لها من سلطان إلا مما يهبونها لصيانة تلك الحقوق تحت إشرافهم ومسئوليتهم، وأوضح لهم بأجلى بيان أنهم جميعا خلقه، وأنهم من أصل واحد وأنهم مكرمون جميعا، كما أهاب بهم أن يكونوا كما يريدهم عائلة واحدة تتسابق على الخيرات ودفع الشرور واكتشاف ذخائر هذا الكون وتسخيرها لتلبية حاجاتهم المادية والمعنوية بما يشعرهم بفضل الله عليهم، من خلال ما بث فى الكون من ضروب النفع وآيات الجمال والجلال ونهاهم عن كل تمايز وعلو على أساس من عرق أو لون أو جنس أو مال وادعاء التقوى، لأنهم جميعا إخوة، فعليهم أن يتعارفوا ويتعاونوا ولا يتظالموا، فاسحا أمام عقولهم حرية مطلقة ومسئولية كاملة على اختيار مصيرهم.
ولا يسع العبد الفقير إلى ربه إلا أن يؤكد قصوره عن سبر فضلا عن استنفاذ أغوار الإسلام وكنوزه، ولم يكن طموحه قط أن يقول الكلمة الأخيرة فى كل مسألة من المسائل الكبرى التى طرحها ولا فى واحدة منها، ولكن حسبه أن يكون قد أغرى من هم أفقه منه واستفزهم للمضى أبعد فى اكتشاف الحقيقة التى لا تنضب للمساهمة فى اكتشاف طريق خلاصنا والبشرية فى العاجل والآجل، فرب حامل فقه يحتاج إلى من هو أفقه منه.