تاركا للكمنجات "أن تبكي وجعه الخاص" وهو الذي شدا لبكائها ذات أغنية، أخذ الموسيقي والفنان اللبناني مارسيل خليفة موقعه بين المتلقين في أمسية مشتركة مع أوركسترا قطر الفلهارمونية بالدوحة أمس، يرقب سمفونيته "العائد" وهي تحكي فصلا من حياته عن العودة والمنفى. بيد أن خليفة في سيمفونية "العائد" لم يكن يبكي وجعا ذاتيا، وطفولة مفقودة، وبيتا مدمرا في لبنان، بل كان يعاين جموع المهجرين في فلسطين، ويساوي بين وجعه ووجعهم، مؤملا لهم عودة كتلك التي كانت له بعد تغرب ومنفى طويلين.
وفي السمفونية التي تولى فيها ضابطا للإيقاع بشار خليفة وعازفا على البيانو رامي خليفة، وعلى الأكورديون أنطوني ميليه، يمهد التشيلو في فاتحة الحركة الأولى للسيمفونية -المكونة من أربع حركات- للكمانات، التي تبدأ صاخبة وكأنما ترحب بالعائد، ثم لا تلبث أن تبعث نغمها الحزين في توترات موسيقية كأنما أراد خليفة لها أن تحفر عميقا في دواخله، وأن تظهر ذلك الوجع الذي انتابه حين العودة، ينوب عنه في ذلك كله صوت الكمنجات المتداخل مع الإيقاع، والبيانو.
ومعها لا يشعر المتلقي وهو ينشد إلى الأوركسترا التي قادها باقتدار "ميخاليس إيكونومو" ذات القالب الغربي بغربة عن الأحاسيس التي تبعثها الموسيقى، وتبدو كأنها استعادة للروح الشرقية التي دأب خليفة على تقديمها في ألبوماته منذ "وعود
استعادة الطفولة
في الحركة الثانية تعود السمفونية، بعيدا إلى مرحلة الطفولة، "يحضر البيت والقرية في زهوه الأول" فتقدم الموسيقى فرحها، وتقترب الإيقاعات إلى حدود الرقص وإثارة البهجة، في تعابير "جذلة" للروح الطفولية، ثم تتناوب في تقديم اقتراحاتها الحزينة أيضا في إشارة إلى فقدان بهجة عالم أول، بفعل تداعيات حرب صادرته.
وتتابع السمفونية فصول العائد، ففي حركة ثالثة تفتتح الكمانات فصلا يستحضر الهدوء والتأمل ولا يخلو من حزن على الراحلين، وفي واحدة من التماعات فصل العائد يتصاعد الإيقاع والكمنجات معا مقدما توترا دراميا عاليا لا يلبث أن يخفت، ثم يعاود صعوده مجددا واضعا المتلقي في أجواء نفسية ودرامية عالية.
خفوت يشير إلى الموت والاندثار، وتصاعد يؤكد الانبعاث وعودة الحياة من قلب الدمار، بينما تنهي "العائد" حركتها الرابعة عبر اجتراح موسيقي "مدهش" لجو صاخب، فاتحة المخيلة على فصل ينتصر للحياة رغم موت ودمار كثير يشوه مشهدها.
سؤال الحرية والجمال
وفي إبداعه للعائد، لم يذهب صاحب ألبوم "جواز سفر" عما أراده لموسيقاه بعيدا، إذ إن رسالتها بحسبه هي "قدرتها على تحريك المشاعر وإيصال الفكرة أو حفر الأنفاق في الواقع وقلب الإنسان وفي معنى الحياة، كما يتداخل في العائد "سؤال الحرية والجمال وفعالية هذا السؤال في العالم".
وحسب شهادة للشاعر البحريني قاسم حداد في كتيب تعريفي وزع مع الأمسية، فإن "خليفة لا يذهب نحو تجاوز التجربة الغنائية التي حققها في أعماله السابقة فحسب، ولكنه يضع تجربة التأليف الموسيقي في منعطف جديد فني ".
وفي تقديمه لمشروعه الموسيقي الذي كان يلح عليه مذ كان –وما زال- مغنيا تردد الجماهير أغانيه كأهازيج شعبية، يرى خليفة أن "الموسيقى ولدت من أولى أسئلة الدهشة عن وجودنا، من تلك الصرخة الإنسانية حين تساءل فيها طفلنا عن سر وجوده الأول".
وأضاف أن أمسياته التي تستمر ثلاث ليال "ستعبر عن سمائنا الإنسانية وهمومنا الفردية، وهي ليست فردية تماما مع سياق الصراع الطويل
مغنيا على المسرح
في فصل الأمسية الثاني، أخلى خليفة موقعه متفرجا ومتلقيا، وعاد ليختبر ذاكرة جمهور يحفظ أغانيه عن ظهر قلب، ولما اطمأن إلى حفظهم، غنى لريتا في شتائها الطويل، "بين ريتا وعيوني بندقية".
احتضن عوده، ووجه تحية إلى "سيد الأغنية" الراحل محمود درويش، الذي "يعود إلينا وكأنه لم يرحل، لأنه ما إن يدخل القلب حتى يبقى ولا يغادره أبدا، ويعود إلينا يذكرنا بالوجود والوحدة والألم والفرح".