التحدى الحقيقى فى أعقاب كل حرب هو اكتساب شرعية جديدة من المجتمع غير شرعية الحرب، فبانتهاء هذه الحرب وشرعية الحكم باسمها، لا يقبل المجتمع استمرار الحكم بنفس الأساليب والأدوات، بل يطلب أن يصبح فاعلا فى الحكم مشاركا فى اتخاذ القرار، فالأشرف خليل الذى حرر عكا وأنهى الوجود الصليبى فى بلاد الشام، أنهى فترة من الحكم المملوكى كان الانتصار العسكرى فيها هو مبرر السلطة للاستمرارية، وبحرب أكتوبر ومعاهدة السلام ثم مقتل السادات كما قتل السلطان المملوكى الأشرف خليل، بدا وكأن مصر فى حاجة جديدة لشرعية بعيدا عن شرعية 23 يوليو، فحسنى مبارك لم يكن هو الأب المؤسس لدولة 23 يوليو على غرار جمال عبد الناصر ذا الشعبية الواسعة، وكذلك الناصر محمد بن قلاوون لم يكن هو الأب المؤسس بل امتداد لحكم أبيه العسكرى المنصور قلاوون صاحب الشعبية الكبيرة لدى المماليك والشعب المصرى والأب الحقيقى المؤسس لدولة المماليك البحرية فى مصر. حكم الناصر محمد بن قلاوون مصر فى أعقاب مقتل أخيه الأشرف أربعين عاما، لم يستطع أن يستوعب التغيرات الاجتماعية فى مصر، كما حكم حسنى مبارك مصر ثلاثين عاما، وكلاهما استمر فى السلطة لتوازنات ما يسمى بالاستقرار، فقاد حسنى مبارك نهايته بيده، وأدى الناصر محمد دورا دفع مصر نحو احتلالها من قبل الأتراك.
هنا قراءة التاريخ تقودنا إلى أوجه شبه كبيرة، سيطر الناصر محمد والمماليك على الحياة السياسية فى مصر، وساهم الأعيان (العائلات ورجال الأعمال) فى حكم مصر المملوكية والسيطرة المشتركة على المجتمع، فأدى الأعيان خدمات جليلة للحكم المملوكى، ونسقوا حكم المجتمع فى المستويات الأكثر تعقيدا، ووظفت ثروات التجار فى أداء خدمات مجتمعية تكسب نظام المماليك شعبية واستقرارا، فكان التجار يبنون هم وأمراء المماليك منشآت خيرية لخدمة المجتمع (لاحظ تبرعات رجال الأعمال لمشروعات سوزان مبارك كمشروع مدارس الفقراء والمستشفيات) لم يكن المماليك أهل سلطة وسياسة فحسب بل شاركوا التجار فى التجارة، فكان التجار يعقدون الصفقات نيابة عنهم خاصة فى تجارة التوابل القادمة من الهند لأوربا، وساعدت سلطة المماليك بعض التجار فى عمليات احتكار واسعة (جمال مبارك أحمد عز) ووصل الأمر بالتجار إلى بيع الخنازير والخمور من مصر لتجار أوروبيين منتهكين المحظورات الدينية الشديدة فى العصور الوسطى.
قادت العلاقات الوطيدة بين الصيارفة فى مصر المملوكية إلى ما هو أكثر، أدى الصيارفة خدمات جليلة للمماليك كالتحكم فى سعر الصرف للعملات، وجباية الضرائب والمبادلات النقدية فضلا عن تثمير النقود أى استثمارها، وأكثر الحالات لفتا للانتباه هى حالة تاج الدين الأرمنى الذى أصبح حاكم قطيا، وهى المركز المصرى للجمارك على الحدود السورية. كان والده أرمينيا مسيحيا اعتنق الإسلام فى القاهرة، فصار من كبار الصيارفة، وتابع تاج الدين عمل أبيه، وتولى وظائف منها حاكم قطيا، (لاحظ توزير رجال الأعمال فى حكم مبارك). ظهر فى عصر المماليك وظيفة جديرة بالتأمل هى تاجر ثروة السلطان السرية، ذلك المركز الذى شغله إسماعيل بن محمد الذى حظى بلقب خواجة، وهو لقب تشريف يطلق عادة التجار الذين هم فى الخدمة الرسمية.
كان للعلماء ذراع كبيرة فى توازنات القوى فى الدولة المملوكية، فهم من يحفظون هدوء العامة، ويلعبون دور الوسيط فى أثناء الثورات، فكما منحوا المجتمع درجة من التماسك، ساعدوا على منح السلطة درجة من الشرعية، وظف المماليك العلماء لديهم، فقد أنشأ المماليك مدارس ومساجد كانوا يمنحون العلماء العاملين فيها رواتب كبيرة، فأصبح هؤلاء فى خدمة السلطة بصورة غير مباشرة، وساعد نظام الأوقاف على هذا، ولم ينجوا من ذلك غير الأزهر بأوقافه الأهلية فصار للعلماء العاملين فيه درجة من الاستقلالية عن السلطة، لذا فإن قيام المماليك بإحاطة الأزهر بمنشآت تعليمية كالمدرسة الطيبرسية والأقبغاوية ووقف وقفيات على الأزهر، كان الهدف منها السيطرة على هذه المؤسسة الدينية، وهو نفس ما حدث من محمد على حين صادر أوقاف الأزهر، أو حينما أحكم جمال عبدالناصر قبضته على المؤسسة الأزهرية.
كان تدخل العلماء لدى السلطة حاسما فى بعض الأحيان لرد مظالم كثيرة، غير أن الشائع لدى أهل مصر فى العصر المملوكى هو براءة السلطان من الفساد والظلم، وكان غالبا ما يذهب أحد كبار موظفى الدولة ضحية أمام الرأى العام الثائر ليبرأ السلطة من فساد شائع، غير أن السلطة المملوكية كانت تضج من كثرة شكوى الجماهير من الفساد، فقد جاء فريق من الحائكين يشكو إلى السلطان شراء النطرون بالإكراه، فجرت معاقبتهم وطوفوا فى شوارع القاهرة للتشهير بهم وليكونوا عبرة لغيرهم، فما كان من عامة الجماهير إلا أن قذفوا المماليك وحرروا الحائكين من يدهم، لكن فى أحيان كثيرة كانت سلطة المماليك تضطر للتضحية بأحد أعضائها، أو حتى بقطع رقبته ومصادرة أملاكه، المهم فى هذه اللحظة هو تبرئة السلطة من تصرفاته.
فى عام 770 هجرية / 1368 ميلادية تجمهر أهل القاهرة خارج قلعة صلاح الدين فى ميدان القلعة (يوازى ميدان التحرير اليوم) مطالبين بأن يسلم لهم حاكم القاهرة وغيره من الفسدة، ففرقتهم فرق المماليك من غير شفقة ولا رحمة، وحاصروا الناس فى مدرسة السلطان حسن المواجهة للقلعة، ومع تأزم الموقف أرسل السلطان أحد أمرائه ليتفهم مطالب المحاصرين فى مدرسة السلطان حسن، لكنهم رشقوه بالحجارة، ومع تأزم الموقف اضطرت السلطة لعزل حاكم القاهرة. هكذا نقرأ فصول من تاريخ مصر.