لم أدرك إلا مؤخرا، وبالتحديد منذ خمسة أيام، أننا نفقد علاقتنا بالزمن خلال اللحظة أو اللحظات التى تخوننا فيها الذاكرة، وأننا حين نفقد علاقتنا بالزمن فإننا فى واقع الأمر نفقد صلاحيتنا لاكتساب خبرة أو تجربة جديدة. بمعنى آخر إذا تساوى اثنان فى العمر وحل بأحدهما داء النسيان المؤقت فالمؤكد هو أن الفرد الذى لم يصبه الداء يصبح بشكل ما أكبر عمرا من رفيقه لا لسبب سوى أنه عاش تجربة سيذكرها بينما رفيقه عاش تجربة لن يتذكرها. عمر الإنسان فى المحصلة النهائية يقاس بحجم وثراء ما يتذكره من تجارب حياة ولا يقاس بعدد السنين. ●●●
السيدة سوميك، وهى زوجة وأم وتبلغ من العمر الحسابى 46 عاما، تحكى قصة غريبة ولكن حقيقية، وهى قصة فقدانها الذاكرة. تبدأ حكايتها فى اللحظة التى اصطدمت دماغها بمروحة من تلك المراوح التى كانت تعلق فى سقف الحجرة وتتدلى منه إلى جانب اللمبة أو النجفة الكهربائية. تخيلت، وأنا أقرأ قصتها، هول الاصطدام البشع فطالما خشيت هذه المراوح حتى إننى كنت فى أحيان أتصورها أشباحا تطاردنى ممسكة بأسلحة بيضاء حادة وقاطعة وباترة. عشت سنوات فى الهند وتايلاند وهونج كونج والصين قبل أن تدخل إلى غرف النوم فيها أجهزة التكييف.. أذكر أننى قضيت ليلتين فى أحد هذه الفنادق وكان فى مدينة بومباى (تغير الاسم فصار مومباي) جالسا القرفصاء فوق مائدة للطعام كانت تتوسط الغرفة وجاء موقعها تحت المروحة، وبدونها ما كان يمكن لجفوننا أن تغفو، وبوجودها مع أزيزها المتواصل ما كان يمكن لنفوسنا أن تطمئن إلى أنها لن تتفلت من أسلاكها وتسقط فوق صدورنا فتقطعنا إربا.
●●●
تقول السيدة سوميك، إنها بعد أن عادت إلى بيتها من المستشفى حاولت أن تربط حذاءها وفشلت وحاولت أن تقرأ وتكتب وتجمع وتطرح فلم تفلح. لم تتمكن من إدراك قيمة الوقت وما يترتب عليه. لم تفهم مغزى إعلان متحدث أن الساعة بلغت السادسة أو السابعة أو الثانية عشرة. وفى كل مرة جلست على مقعد أو انتصبت واقفة واستلقت على فراش أو نهضت منه كانت تشعر أنها تمارس تجربة جديدة.
فى تلك الأثناء كان الأطباء يدربونها على المشى وعلى الإمساك بالشوكة والسكين، بينما انشغل مدربون آخرون بتلقينها الحروف والأرقام وصنع الكلمات. «كانوا يقومون كل صباح بتعريفى بأطفالى وزوجى وعند المساء لا أعرفهم». مضى عام على الأقل قبل أن تبدأ ذاكرة جديدة فى التشكيل. وخلال العام التالى بدأت تتكون ذاكرة وإن مفككة ومتقطعة. وظل صعبا للغاية الربط بين الأشخاص والعلاقات التى تربطها بهم.
خلال العشرين عاما اللاحقة على الحادث، حاولوا أن تتعلم السيدة سو كل شىء. ذهبت مع أطفالها إلى روضة الأطفال وسمحت لها إدارة المدارس الابتدائية والثانوية بأن تقيد كتلميذ. تعلمت مع أطفالها الطرح والجمع والضرب والقراءة والكتابة، بل ولعبت معهم ألعابهم، وفى البيت اختلطت الأدوار وتشابكت العلاقات، كانوا يلعبون أحيانا دور الأم يحيطونها بالرعاية ويدربونها على التزام آداب الحديث مع الغرباء والحذر من اللعب بالنار والتيار الكهربائى والغوص فى البانيو. تخرجت سوميك فى الجامعة وعرضت نفسها كغيرها من الخريجين فى سوق العمل. ذاكرتها كذاكرة بنت العشرين بتجاربها وخبراتها، بينما وجهها لا يخفى تجاعيد بنت الخمسين. كانت قد عرفت أن ذاكرتها لن تعود فراحت تصنع ذاكرة جديدة، بمعنى عاشت حياة أخرى. حاولت ألا يفوتها شىء فجربت كل شىء، حتى الحمل والولادة.
●●●
أعرف كثيرين تعساء وغير راضين عن حياتهم. أعرف منهم من يتمنى أن تمحى من ذاكرته سنوات عاشها وتجارب خاضها. أعرف آخر يحرص دائما على أن ينتقى من الذاكرة أشياء ويهمل أشياء أخرى.
هؤلاء لا يعرفون قيمة الذاكرة. لا يعرفون أن إنسانا بدون ذاكرة جسد بدون هوية، مثله مثل شعب أهمل تاريخه أو تجاهله أو عاش ينتقى منه ما يروق له ويهمل ما لا يروق، فانتهى حاله إلى حال ليست أفضل من حال شعب يعيش على جمع الثمار وصيد الحيوان، شعب بدون قصة أو أسطورة، أى بدون ذاكرة.