قبل ستة شهور، احتشد الشعب التونسى بعد أسابيع من الاحتجاجات أمام وزارة الداخلية للمطالبة برحيل زين العابدين بن على، رئيسهم لفترة طويلة، عن البلاد. وقد فر إلى السعودية فى 14 يناير. غير أن مستقبل البلاد ما زال غير واضح. وقد واجهت الحكومة المؤقتة التى حلت محل حكومة بن على الاعتصامات الضخمة التى نظمتها جماعات المعارضة. مثلما كان الحال مع الثورة الفرنسية التى جاءت مسلحة ب«قوائم من المظالم». وقد توقف الإضراب عندما تولى رئاسة الحكومة المؤقتة بيجى سيد السبيسى المحنك فى السياسة التونسية فى نهاية فبراير. وقد نجح فى التحايل لتهدئة الغاضبين وعدم استفزاز أولئك الذين لا يريدون التغيير. وسيكون مفتاح إقامة ديمقراطية جديدة الآن هو كيفية تعامل الحكومة المؤقتة مع أعضاء النظام القديم. وللأسف، كانت مترددة فى تقديمهم إلى العدالة فورا. واختارت بدلا من ذلك، ترك هذه المسئولية المهمة للحكومة التى ستتولى السلطة بعد الانتخابات فى أكتوبر المقبل. وقد تحقق بعض التقدم فى الأمر؛ فتمت مصادرة أصول القريبين من بن على، وحل حزبه، وتفكيك الشرطة السرية، وقدم عدد من كبار المسئولين للتحقيق بتهمة إساءة استغلال السلطة، وتبديد الأموال العامة. ●●● غير أن النظام القانونى المعيب والجامد لم يقنع المواطنين التواقين إلى عدالة حقيقية. فحتى الآن لم يعرف دولار واحد من الأموال التى أخرجتها أسرة بن على من البلاد، طريقه للعودة إلى خزانة الدولة، ولم تتم إدانة ضابط واحد من المتورطين فى قتل نحو 300 متظاهر، ولم تتسلم تونس فردا واحدا من أفراد الأسرة الحاكمة الذين فروا من البلاد، ومن بينهم بن على نفسه. واتبعت الحكومة المؤقتة المسار القانونى التقليدى الذى يرأسه نفس القضاة الذين عملوا لصالح النظام القديم، بدلا من اتباع نظام العدالة الانتقالية عبر لجان تقصى الحقائق والمحاكمات غير الرسمية الذى سيكون أسرع وأكثر مرونة. وفى 20 يونيو، تمت محاكمة بن على وزوجته، بما يقرب من مائة اتهام من بينها التآمر ضد الدولة وحيازة مخدرات وأسلحة. وقد صدر الحكم ضدهما غيابيا بالسجن 35 عاما وغرامة 66 مليون دولار. ولكن فى غياب كل من المتهمين ومحاميهما الأجانب كما يحظر القانون التونسى أن يمثل محامون أجانب عن التونسيين وقد شجب العديد من الشعب التونسى المحاكمة واعتبروها مهزلة للعدالة. ولكن هذا لغط كثير حول لا شىء. فعلى الرغم من أن نظام العدل، قد تحرر من أسوأ قيوده، إلا أنه لا يزال غير فعال. فالقضاة فى تونس ضمن أقل القضاة أجرا فى العالم، ويأتى ترتيبهم عقب نظرائهم فى بنجلاديش. وتواصل المشكلات الاجتماعية التى أثارت الاضطرابات الحالية تسميم العملية الانتقالية أيضا. ويمكن للبطالة المزمنة وانخفاض مستويات التعليم تقويض التحول الديمقراطى التونسى. ويحتاج نظام التعليم الذى أضر طويلا القدرة التنافسية التونسية، بالتركيز على الكم بدلا من الكيف إلى إصلاحات عميقة. وفى نفس الوقت يعيش أكثر من 1.2 مليون تونسى ما يزيد على 11 فى المائة من عد سكان البلاد فى فقر. (رفعت تقديرات الحكومة المؤقتة الرقم إلى 24 فى المائة). وفى الاجتماع الأخير لمجموعة الدول الكبرى الثمانية الذى عقد مؤخرا فى مدينة دوفيل بفرنسا، طالب السيبسى بمعونة قدرها مليار دولار على مدى خمس سنوات. وقد أقرت مجموعة الثمانية مع حكومات ومؤسسات أخرى حزمة معونات مجمعة مقدارها 40 مليار دولار لمصر وتونس. وهو مبلغ يتضاءل بالمقارنة خطة مارشال العصرية التى تحتاج إليها المنطقة بصورة ملحة. وفى 23 أكتوبر، سوف يقرر التونسيون ما إذا كانوا يريدون نظاما رئاسيا أو برلمانيا، وينتخبون حكومة جديدة. وقد يظهر فى الانتخابات أكثر من 90 حزبا، بما يتوقع معه برلمان منقسم للغاية. وتظهر الاستطلاعات الأولية أن حزب النهضة الإسلامى الذى كان محظورا فى السابق يتمتع بتأييد ما يزيد على 20 فى المائة من الناخبين. وحتى يكتسب حزب النهضة مصداقية، وافق على الحقوق الذى يتمتع بها التونسيون منذ فترة طويلة بأعلى المعدلات فى العالم العربى والمبدأ الذى تم إقراره مؤخرا بضرورة أن ينضم الرجال والنساء إلى السلطة التشريعية الديمقراطية الجديدة بأعداد متساوية. وحتى يطمئن الغرب، يريد الحزب أن يقدم نفسه فى صرة حزب العدالة والتنمية الحاكم فى تركيا. ولكن على العكس من حزب العدالة والتنمية، لم يتخل حزب النهضة أبدا عن آماله فى دولة إسلامية، ويعارض بقوة الفصل بين الدين والدولة. والأكثر من ذلك أنه يفضل إدراج شرط دستورى مع القوميين واليساريين المتطرفين يحظر تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل. وهو موقف أحمق يعود بالذاكرة إلى خطاب الستينيات الذى عفا عليه الزمن. ●●● وتسعى تونس إلى دمج الإسلاميين بالكامل؛ ولكن ربما كان فى ذلك مخاطرة. فإذا خرج حزب النهضة من الانتخابات بأغلبية ساحقة، ربما يقرر أن يكون متواضعا ويدعم حكومة وحدة وطنية، حتى يطمئن واشنطن والمقرضين الأجانب للبلاد. وإذا انتهى به المطاف إلى وضع الأقلية، سوف يتريث متوقعا أن يفوز ذات يوم ويحكم البلاد. ويعتمد اتباع الإسلاميين فى تونس النموذج المعتدل لحزب العدالة والتنمية أو العودة إلى الراديكالية الإسلامية، على قدرة القادة الجدد انتهاج مسار مسئول، وعلة قدرة الأحزاب العلمانية والمعتدلة على تحدى الجماعات العروبية والإسلامية. وقتها فقط سوف نعرف ما إذا كانت الثورة التونسية تمثل انتصارا لليبرالية أم ستكون بابا مفتوحا للتطرف.