أكثر ما يهدد الثورة بالخطر هو ضبابية الرؤية التى تميز المسيرة، وما ينجم عنها من تصادم الإرادات، وتباين السرعات، واختلاف التوجهات.. بين ما يريده ويقدره المجلس العسكرى حامى الثورة وراعيها من ناحية، وما تقدم عليه الحكومة التى جاء اختيارها من الشارع بالمصادفة من ناحية أخرى، وما تعبر عنه جموع الثوار وعامة الناس من ناحية ثالثة. وطوال الشهور الخمسة الماضية لم يكن هناك إجماع بين هذه الأطراف الثلاثة على قضية واحدة.. باستثناء إزاحة النظام القديم واقتلاع جذوره ورؤوسه ورموزه، وشهدنا تقريبا فى كل قضية خطوات إلى الأمام تتبعها خطوات إلى الخلف.. سواء فى مسألة انفلات الأمن، أو فى محاكمة رجال العهد البائد، أو فى التصرف إزاء مبارك! وحتى فى مسألة إنهاء خدمة الضباط المتهمين بقتل الثوار لم تتخذ الحكومة قرارها إلا بشق الأنفس! والحقيقة هى أن أى ثورة لا يمكن أن تحقق إنجازا إن هى ظلت ترقص على موسيقى الشارع. وهى موسيقى شجية ولكنها صاخبة.. بدأت كما رأينا بالإشادة بكل ما تطالب به الثورة وإسقاط كل ما كان يمثله النظام السابق. ثم جرى الاختلاف حول الأولويات.. أى خطوة تسبق الأخرى. وانتهى الأمر كما نرى الآن بمن يطالبون بهدم كل شىء مرة واحدة دون انتظار لإقامة البديل، أو مراعاة لموقف الملايين من الطبقات الكادحة التى لا تأتى إلى ميدان التحرير، ولا ترفع لافتات التثوير والتبوير، ولا ترى فائدة من الانتقاص من دور المشير والقوات المسلحة.. إذ يدرك رجل الشارع العادى أن القوات المسلحة مهما اتهمت بالتباطؤ هى الغطاء الوحيد لمصالح الشعب. وإلا لشهدت مصر مذابح كالتى نراها فى اليمن وليبيا وسوريا! الثورة ليست للثوار فقط ولكنها لمصر كلها.. بشبابها وشيوخها، ورجالها ونسائها، وفلاحيها وموظفيها، وأغنيائها وفقرائها. وربما كان من حق الثوار الذين احتشدوا فى ميدان التحرير يوم جمعة «الثورة أولا»، أن يرضوا عن أنفسهم، لأنهم برغم تعدد المنصات واختلاف المطالب واللافتات، والوقوف تحت وطأة شمس حارقة ساعات وساعات، لم يتركوا الفرصة سانحة للبلطجية، وكدابى الزفة، وبائعى الشعارات الزائفة، للوقيعة وإثارة البغضاء والمشاحنات، كما حدث فى مرات سابقة. وانفضت التظاهرة بسلام بعد أن قدم الملايين رسالة واضحة صريحة بمطالبهم! وما يهمنى الإشارة إليه فى هذا الصدد، هو أننا ما دمنا قادرين على تنظيم مظاهراتنا وإفساح المجال أمام تيارات وفئات وأحزاب متنوعة، تتنافس جنبا إلى جنب وتعبر عن مواقفها ومطالبها دون انتقاص أو انتقاض لحق أحد، فلماذا لا يصبح ذلك النموذج هو النمط الذى نلتزم باتباعه فى تظاهرات قادمة؟ الثورة ليست للثوار فقط. بمعنى أن الثوار يجب أن يتحسسوا نبض الشعب ومشاكل الناس ويعبروا عن آلامهم وآمالهم إذا أرادوا بالفعل أن تستمر الثورة ولا ينسلخ الثوار عن قواعدهم.. فكم من ثورة أكلت أبناءها بسبب الخلافات وأطماع الزعامة وشهوة القيادة. لابد من الاعتراف بأننا جميعا لا نسير بسرعة واحدة. هناك فرق فى السرعة بين حركة الثورة ومدى استجابة المجلس العسكرى فى إدارة الدولة. وثمة قرارات وإجراءات لا تتخذها الحكومة فورا، لأنها حكومة انتقالية، تستمد سلطتها من إرادة المجلس العسكرى. وقد رأينا تردد موقف الحكومة من الحصول على قروض من البنك والصندوق مرة بالموافقة ومرة بالرفض، ورأينا كيف ألغيت وزارة الإعلام ثم أعيدت، ورأينا تذبذب المواقف من الدستور والانتخابات؟! فى خضم بحر من المتغيرات، لم تحسم غير نسبة ضئيلة منها، يبقى القضاء هو الصخرة التى يجب أن تبقى ثابتة مهما بدا فيه من شوائب.. وأخطر شىء أن يتعرض لهزات أو ضغوط يمكن أن تهز ميزان العدالة الناجزة.. يمكننا أن نطالب بالتطهير وسرعة إجراء المحاكمات والبت فى القضايا ولكن لا يمكن استخدام المقصلة أو أساليب الاجتثاث التى استخدمتها ثورات أخرى. ومنها ثورة يوليو. فقد تركت وراءها من المآسى والمظالم ما بتنا نندم عليه سنوات وسنوات. فى كل مرة وبعد كل مليونية سوف نسأل أنفسنا: كيف يمكن أن تحقق الثورة خروجا آمنا من ميدان التحرير الذى بدأ يضيق عليها وبها، إلى طريق أوسع.. من أجل مصر وشعب مصر؟!