صحيح أن اللوبى «الإسرائيلى» حقق إنجازا مهما، لكنه فى الوقت نفسه، زرع بذور ردود فعل ناقدة لهذا التدخل السافر، حيث تم توظيف منبر الكونجرس لتحدى صلاحيات الرئيس الأمريكى، للوهلة الأولى كان لنتنياهو ما كان يريد.. وأكثر، لم يكتف بأسلوب الإملاء كما توقعنا فى عجالة سابقة، بل اتخذ منهج الجزم، لذا حتى المسلمات البديهية التى التزمتها سياسات الإدارات السابقة كإدارتى جورج بوش وكلينتون أن تكون حدود يونيو 67 مع بعض التعديلات فى الأراضى التى توجد فيها مستوطنات كثيفة مقابل نسبة عادلة من الأراضى لدولة فلسطين، هذه كانت المواقف الأمريكية الغابنة، ولكن لم يتم التنبه لها من قبل مفاوضى السلطة الفلسطينية، لذا عندما أكدها الرئيس أوباما كقاعدة لدور أمريكى مستأنف صمم رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو على إلغاء نقطة انطلاق عملية السلام وفرض رفضه القاطع لما كان يعتبر مسلمة بذريعة أن حدود يونيو 67 غير مؤهلة للدفاع عن إسرائيل، وبمعنى آخر كان هذا الرفض لتعريف حدود إسرائيل يتماشى مع امتناعها منذ قيامها عن الاعتراف بأى حدود لها حتى تستكمل مشروعها الصهيونى فى استمرار التمدد الاستيطانى فى الإطار الجغرافى غير المسموح تعريفه. ••• إن إسرائيل لا تعترف بأنها دولة تحتل أرضا عربية، لأن ذلك يجعلها مسئولة عن تطبيق بنود اتفاقيات جنيف الرابعة، وهكذا نجحت فى التنصل منه كون منظمة التحرير فى اتفاقيات أوسلو تشترط وضوح السند القانونى قبيل الشروع فى التفاوض. وبرغم أن الانتفاضة الأولى ركزت على ضرورة وضوح الأساس القانونى كما أصر الدكتور حيدر عبدالشافى أثناء ترؤسه وفد المفاوضات فى واشنطن قبيل أوسلو جاءت أوسلو لتقنن إلى حد كبير تغييب كون إسرائيل دولة محتلة، مما أفسح المجال أمام ما هو حاصل الآن، وهو أن الرؤساء الأمريكيين منذ مؤتمر مدريد، رضخوا للغموض، وهذا الالتباس بقصد أو بغير قصد، ولذا كانت النتيجة تسليم إدارة المفاوضات إلى الولاياتالمتحدة، كونها بمفهوم الرئيس الراحل السادات تملك 99 فى المائة من الأوراق، مما دفع إسرائيل على إثر معاهدة الصلح مع مصر إلى التصرف كمغتصبة لأرض لها حق تاريخى وأمنى بملكيتها، مما مكن نتنياهو فى خطابه أمام اللوبى الإسرائيلى أن يكون واضحا فى ذلك، وأكثر وضوحا وحسما أمام الكونجرس، وأن يجزم بأن القدس الموحدة هى العاصمة الأزلية والأبدية لإسرائيل اليهودية، والدولة القومية للشعب اليهودى. كما لم يتردد لثانية فى رفض حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلا خارج دولة إسرائيل غير المعروفة الحدود، كما أرسى فى خطابه أمام الكونجرس شرعية التمييز العنصرى لعرب ،48 كما أصرّ على وجود قوات عسكرية على حدود الأردن داخل دولة فلسطين المفترضة التى يجب أن تكون منزوعة السلاح، والتى لن تقوم إذا تمت المصالحة بين فصائل المقاومة الفلسطينية، خاصة، وكرر أنه يستحيل التفاوض مع حكومة يعتبرها امتدادا للقاعدة. فى هذا المضمار أعاد تأكيد كون قطاع غزة هو كيان معاد وأبدى استياءه من قرار مصر فك الحصار عن قطاع غزة وفتح معبر رفح، مما جعل مصر الثورة تستعيد تدريجيا دورها الرادع لاستباحة إسرائيل حقوق الشعب الفلسطينى، والحيلولة دون جعل سلوكها وخروقاتها المتواصلة للقوانين والقرارات الدولية منفلتة من العقاب، وتحويلها كل مساءلة عن خروقاتها لحقوق الإنسان، ومنها حق العودة، بمثابة تهديد لشرعيتها، ودليل على أن تتولى الإدارة الأمريكية حمايتها،، من خطر اعتراف أكثرية أعضاء الأممالمتحدة بدولة فلسطين المستقلة، فاللجوء إلى الأممالمتحدة يشكل تهديدا لكيانها كما تدعى، وأن نجاح هذا المشروع سيشكل طوقا على الدولة الديمقراطية الوحيدة فى المنطقة مما أدى برئيس الإيباك إلى تحميل الرئيس أوباما مسئولية إجهاض هذا المشروع الذى من شأنه عزل إسرائيل عالميا، مما دعا إيهود باراك وزير الحرب الإسرائيلى إلى اعتبار سبتمبر بمثابة تسونامى ضد إسرائيل. ••• لن أعلق على مناظر جاهلية التصفيق المكرر لمعظم أعضاء الكونجرس التى حولها خطاب نتنياهو إلى عامل ضغط على الرئيس أوباما حتى يعود إلى حظيرة الرضوخ لعملية ابتزاز من خلال الإيحاء بأن إسرائيل حاضرة بقوة فى الخريطة السياسية الأمريكية وأنها، كما أوحى نتنياهو إلى الرئيس أوباما بأن أى تعديل أكان كبيرا أو طفيفا فيما يخص مطالب إسرائيل سيكون مكلفا. من هذا المنظور اعتبرت قيادة الحزب الجمهورى أنها حققت إنجازا، مما دفع بعض القادة الديمقراطيين، إلى التهافت لتأييد أهداف «إسرائيل» كما أعلنها نتنياهو. صحيح أن اللوبى الإسرائيلى حقق إنجازا مهما، لكنه فى الوقت نفسه، زرع بذور ردود فعل ناقدة لهذا التدخل السافر حيث تم توظيف منبر الكونجرس لتحدى صلاحيات الرئيس الأمريكى المسئول الأول عن السياسات الخارجية، كما ورد فى افتتاحية النيويورك تايمز بالأمس، كما أثار ذلك ردود فعل تدين مسرحية الكونجرس، كما أن زيارة نتنياهو وإن حققت له نجاحا إلا أنها استولدت غضبا وإن محدودا إزاء تراخى الإدارة الأمريكية لمحاولة نتنياهو واللوبى الإسرائيلى الهيمنة، ومن ثم الضغط على صانعى القرار والرأى، للحيلولة دون استقلاليته، خاصة فى هذه المرحلة التى أبرزت حيوية الأمة العربية وتحرر شعوبها من الخوف واستهدافها الكرامة القومية والإنسانية، مما يعنى أن هذه الجماهير الثائرة لن تبقى غائبة عن دورها فى تحرير فلسطين عمليا، التزاما منها بأن أمن وأمان شعب فلسطين مسئولية قومية، بل وهى فى طليعة مسئولياتها التاريخية والمستقبلية أيضا. ••• وأخيرا.. لماذا تمكن نتنياهو من أن يتباهى بإنجازات زيارته لواشنطن رغم ما تنطوى عليه من إخفاقات متوقعة. فالاستكبار الذى مارسه كما التحديات السافرة التى قام بها، وحماقة الاستفزازات التى شكلها وتشويهه الواضح للحقائق، وتعمده إحراج الرئيس الأمريكى تدفعه إلى التخلى عن التباين الضئيل والانضباط بالتطابق المطلوب الذى يحمل فى ثناياه احتمالات إذا أحسنا توظيفها على قيام جمهور عربى مكثف، وخطاب عربى واحد يعيد إلى عوامل التصحيح حيوية قادرة على تفنيد عناصر ومصطلحات الترويج للحقائق، والتصدى لسياسات الإملاء التى يقوم بها أنصار وزبانية إسرائيل بمنهج. خطاب عربى يقوم ليس على الرد والتفنيد فحسب، بل على الدعوة المتواصلة لإبراز الحقائق واتباع منهج الإقناع والقيام بحملات مكثفة للتنوير. صحيح أن هذا لا يكفى إذا لم تكن من كلفة لسياسات التمييز للأوراق الأمريكية، لكن التنوير الإعلامى لا يكفى إن لم يكن يعبر عن جبرية الالتزام العربى، وفى تمكين الجاليات العربية ألا تكون مرآة للتفكك الراهن فى الأمة، بل خميرة تعكس قيم وأهداف وأخلاقيات ما يسمى ب«الربيع العربى» الواعد. يستتبع هذا التمكين للدعوة العربية أن نستعيد القدرة على نقد بناء للخطوات التى قام بها الرئيس أوباما، والتى كانت خاطئة وإن كان مفترضا أنها ناتجة عن حسن نواياه. فمثلا كانت مطالبته لإسرائيل بتجميد مؤقت للاستيطان عشرة أشهر وكان على السلطة الفلسطينية عدم القبول بهذه المبادرة، كون أن التجميد المؤقت هو إقرار بحق الاستيطان وبالتالى بحق إسرائيل فى التملك وبالتالى اختفاء سمة الاحتلال من المباحثات. ثم طالب الرئيس أوباما إسرائيل بعد انقطاع المفاوضات بثلاثة أشهر إضافية كحافز للفلسطينيين بالعودة إلى طاولة المفاوضات، مما أدى إلى رفضها من قبل نتنياهو. فتمكن الإعلان الصهيونى من أن يجعل من التجميد تنازلا أليما. وبدوره أصبح الاستيطان القائم خاصة فى محاولة تهويد القدس إحدى النتائج التى أكدها نتنياهو فى خطابه أمام اللوبى الإسرائيلى وفى الكونجرس. أجل هذه الاستفزازات الواضحة جعلها نتنياهو حقائق مفروضة وبالتالى عرّى دولة فلسطين من عاصمتها أى من دون أن تكون القدس عاصمة لها، لأن نتنياهو قلب الحقائق، وجعل من الأمر الواقع الذى يفرضه على الأرض المغتصبة، بمثابة أملاك مطلوب استعادتها إما لأسباب أمنية تسوق عالميا وإما بزعم تاريخية حقوق «إسرائيل» وهو ما يعتبره العالم ويعترف به على أنه أراض محتلة. ••• إن زيارة نتنياهو لواشنطن والكونجرس التى تسوقها إسرائيل إنجازا إنما هى وَهْمٌ أكثر مما هى واقع، وَهْمٌ يبهر إلى أن يصطدم بالحقائق، فالجزم هو استباق للمساءلة.. هو قمع للاعتراض.. هو سمة لطبائع الاستبداد.. هو الحائل دون صيرورة العدالة.. وكما صار واضحا للسلام أيضا.