عندما تطغى حالة الإنكار على مسئول، كما هو الحال مع تونى بلير الرئيس السابق للحكومة البريطانية، وكما ظهرت عندما مثل أمام لجنة التحقيق التى أقيمت بهدف النفاذ إلى الدوافع وراء قرار السيد بلير تجاوز مجلس الأمن وبالتالى المشاركة فى غزو العراق، يصبح الإنكار والإصرار عليه بمثابة جرم يعرضه للمحاسبة وللمعاقبة أخلاقيا على الأقل، وسياسيا وقانونيا، كما يفترض المنطق. فأمام اللجنة قال تونى بلير «هذا ليس موضوعا متعلقا بالكذب، أو بمؤامرة، أو غش أو خداع.. وإنما هو قرار!» فكل الأدلة التى بررت الغزو كانت كاذبة، ومؤامرة حاكتها مجموعة المحافظين الجدد بالتنسيق مع ديك تشينى والمعروفة بتوجهاتها الصهيونية وهى نفس المجموعة التى بمعظم أعضائها كانت قد خططت وأدارت حملة بنيامين نتنياهو الانتخابية عام 1996. وكانت معارضة أوباما لهذا الغزو غير الشرعى والتى أحد العوامل الرئيسية التى ساهمت فى فوزه بالانتخابات الرئاسية فى نوفمبر عام 2008. * * * صارت ضرورية الإشارة لحالة الإنكار التى تختزلها ردود تونى بلير على لجنة التحقيق، حيث صرحت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون أن «تونى بلير يهيئ لدور أكبر فى المساعى أن يعيد إسرائيل والفلسطينيين إلى محادثات السلام من خلال تكثيف الشراكة مع المبعوث الخاص جورج ميتشل». وكان بلير قد عين ممثلا للرباعية فى يونيو 2007، وكانت مهمته بناء التأييد للدولة الفلسطينية، وإن لم يكن يتمتع بصلاحية «التفاوض». لذا أعتقد أن حالة الإنكار الممزوجة بالاستكبار تدفعنا إلى أن رؤية هذا الدور المتنامى فيما يسمى بإدارة «مسيرة السلام» والإلحاح الأمريكى فى العودة إلى «طاولة المفاوضات»، فى ضوء استمرار إسرائيل فى تشريع عملية فرض وقائع جديدة على الأراضى، على أنه إدانة مبطئة للمبعوث الأمريكى أو إن استعانة إدارة أوباما بتونى بلير فيه إعادة إنتاج لدور بلير من «المقدم» جورج بوش. بمعنى آخر ترشيح بلير يبلور ضغوطا أكثر شراسة مع تقديم حوافز اقتصادية للسلطة حتى تبقى المقارنة مع الحالة فى قطاع غزة أكثر وضوحا وأكثر صراحة. وكان فى مهمته منذ 2007 يعمل فى هذا الاتجاه لكن بدون الأهلية السياسية التى تمنحه إياها الوزيرة كلينتون الآن. السؤال الذى يفرض نفسه إذن: هل حكومة نتنياهو التى تعتبر كسابقاتها أن إسرائيل لا تقبل بأى «تدخل»، وإذا كان لا مفر من وسيط أو مسهل فيجب أن تبقى المهمة محصورة ب«الأمريكى» كون يبقى هذا الموفد مقيدا بالاعتبارات السياسية خاصة فى الكونجرس التى مهما كانت قناعات الإدارة أو وزارة الخارجية تبقى أية اقتراحات يقدمها المبعوث وفى هذه الحالة جورج ميتشل محدودة الأثر، نظرا لأن اللوبى الإسرائيلى له نفوذ مقابل لنفوذ الولاياتالمتحدة فى إسرائيل. وهذا التقاطع بين النفوذين هو ما يبدد أى توقعات ايجابية تمكن من انتزاع أى استجابة جادة لمطلب أمريكى، مثل «تجميد» الاستيطان. هذا الطلب الأمريكى أفقدته نجاعته محدودية الطلب، والتى تعاملت معه إسرائيل وكأنه ينطوى على طلب تنازلها عن حق، فأظهرت «تجاوبها» على أنه «تنازل» بعشرة أشهر، مع اشتراطها الإبقاء على عمليات الاستيطان الذى تم الترخيص لها قبل الطلب الأمريكى، إضافة إلى استثناء التهويد المستمر للقدس الشرقية لأنها «ليست مستوطنة» بل العاصمة الأبدية والأزلية لإسرائيل؟ * * * لذا نعود إلى السؤال: لماذا تونى بلير فى هذا الوقت بالذات؟ وإذا كانت إدارة أوباما بحاجة إلى تمكين مبعوثها، فلماذا بلير بالذات؟ والمعروف دوره فى تبرير وتغطية عملية غزو معدومة الشرعية. وبرغم أننا نستطيع التكهن بما قد يصدر فى أواخر الربيع المقبل من نتائج أو تقارير، فإن المكابرة فى الأنكار قد تؤول إلى إدانة وهى الأكثر احتمالا. ويبقى السؤال لماذا بلير فى الشأن الفلسطينى؟ لماذا بلير فى هذا الوقت بالذات؟ يستتبع هذا التساؤل ضرورة النفاذ إلى دور «الرباعية»، والتى تشمل الأمين العام للأمم المتحدة؟ هذا السؤال يجب أن يطرح على الأمانة العامة للأمم المتحدة نفسها وهو أن الأمين العام هو المرجع لتأكيد وتفعيل قرارات الأممالمتحدة الصادرة عن مجلس الأمن وحتى الجمعية العامة. صحيح أن بعض الدول الكبرى كثيرا ما تعرقل أو تعطل دور الأمين العام، لكن على الأمين العام أن يحرص على دوره كمرجعية لقرارات الأممالمتحدة التى بدورها تشكل معظمها فلسفة التشريع للقانون الدولى. لذا فان وجود الأمين العام فى لجنة دولية غير مضمون دورها فى تطبيق القانون الدولى وقرارات الشريعة الدولية يشكل انحرافا، يمكن توصيفه كبدعة. وقد تبين أن الرباعية منذ نشأتها لم تعرف بالتوازن والموضوعية أو الالتزام بتطبيق القرارات ذات الصلة، بل بالعكس، فقد كان هناك تحيز واضح لموقف العضو الرئيسى فيها، أى الولاياتالمتحدةالأمريكية. وما هو أشد إيلاما أن الأمين العام السابق كوفى أنان كان يصرح باسمها. وإذا استمرت الرباعية بتشكيلاتها الحالية يتعين على المجموعة العربية فى الأممالمتحدة وأنصارها المطالبة فورا إزالة هذه البدعة، لأن الأمين العام هو القيم على سلامة تنفيذ القرارات لا المشاركة فى «مفاوضات» أثبتت عبثيتها وميلها لبتر العديد من الحقوق الفلسطينية المنصوص عليها فى القرارات الدولية ذات الصلة. * * * وأمام ما نشاهده من تآكل متواصل فى معالجة حقوق الشعب الفلسطينى تجىء صيغة مشاركة تونى بلير فى القادم من مباحثات ومفاوضات سياسية مع المبعوث الأمريكى ما من شأنه ترسيخ الشعور العام بالقلق على المصير الفلسطينى.. وكأنه لا يكفى سيادة الإحباط السائدة عربيا وفى دائرة الوجدان عالميا. إلا أن الجديد فى تمكين دور بلير سياسيا قد يسهم، بل سوف يسهم، فى تعطيل حتى الحد الأدنى من احتمالات المراجعة النقدية الآخذة بالتنامى فى أوساط أمريكية عديدة، خاصة فى بريطانيا نفسها، لذا نستغرب هذا القرار الذى صرحت به الوزيرة الأمريكية هيلارى كلينتون وكأنها تشارك فى حالة الإنكار، وهى التى شاركت فى التصويت على قرار بوش بالغزو. وبرغم دعمها لسياسة رئيسها أوباما إلا أن قرار تعيين بلير فى الرباعية كان خطأ، لأن الرباعية كانت ولاتزال تركيبتها خطأ. لكن أن تعزز صلاحيات تونى بلير فيها سياسيا مع المبعوث الأمريكى فهذا من شأنه أن يحول الخطأ إلى خطيئة بحق ما تبقى من مسيرة السلام، ومن سائر معوقاته المصيدة التى أوقعتنا بها معاهدات الصلح مع إسرائيل، وما أنتجته من تداعيات اتفاقيات أوسلو وإفرازات خرائط الطريق، ومصيدة «الواقعية» التى حولتها إلى «وثيقة».