هذا الحوار تحيز لما تقومين به، ودعمه إن كان يحتاج الدعم.. كلمات لم أجب بها الكاتبة مى التلمسانى عندما سألتنى عن الدور الحقيقى للإعلام، مستنكرة احتفاءه بأصوات دون غيرها، وعدم وعيه بأشياء كثيرة. ربما منعتنى من إجابتها قناعة بجزء لا بأس به مما قالت، فالوقت لا يسمح بالمهاترات، والبلد يحتاج إلى شعور حقيقى بالمسئولية، وبات من العيب، ملء الصفحات بما يُظلم العقول دون قناعات يستند إليها فى المتابعات، ووعى بما يجب الاهتمام به، وما يجب تجاهله، قد يتنافى هذا قليلا مع قاعدة الحياد المهنى، لكن الضرورات تبيح المحظورات. الحديث بيننا لم يتطرق إلى بعض النقاط المفترضة فى لقاء كاتبة مصرية تعيش خارج الوطن منذ 13 سنة، مثل أثر ثورة يناير على المصريين فى الخارج، وكيفية مشاركتهم فيها، بل كان يحوم حول مشروعها فى نشر فكرة الدولة المدنية بين العامة، بدءا من إطلاقها موقعا إلكترونيا يحمل هذا الهم، ومرورا بتجوالها بين مكتبات القاهرة وبعض المدن للتعريف بها أثناء فترة إجازتها بمصر، وهى لم تكن بحاجة لاستدراج من هذا النوع، فحكيها جاء حاملاً إجابات لأسئلة لم تُسأل. الضوضاء التى ملأت المكان لم تكن كفيلة بالشوشرة على صوت مى التلمسانى، وهى تحدثنى عن بداية تبلور فكرتها: «أعيش فى كندا منذ 13 سنة، حيث أعمل بالتدريس فى إحدى الجامعات، قبيل 25 يناير وصلتنى الدعوة التى وصلت الجميع على الفيس بوك للنزول والتظاهر كى نسقط النظام، ومثل الكثيرين لم أهتم، إلى أن فوجئنا يومها بحجم المسألة، وأنها أخذت شكلا جديا، قبل أن تضح ملامحها كثورة حقيقية يوم جمعة الغضب، ودعّم الأمر الخلفية والشحنة التى تركتها لنا الثورة التونسية». راحت مى التلمسانى حائرة بين شاشتى الكمبيوتر والتليفزيون لمتابعة الأحداث، كانت تهاتف أصدقاءها فى مصر فتحمسهم، وتكمل لبعضهم جزءا من المعلومات، التى تكون رأتها على فضائية الcnn، وهم فى طريق العودة إلى منازلهم، فشعرت أنها مشاركة، وآمنت بمقولة «أنصاف الثورات أكفان للشعوب»، وأنه طالما قامت الثورة لابد من استمرارها حتى سقوط النظام. منذ البداية كانت من المدافعين عن حق التمثيل السياسى لجميع التيارات بما فيها الإخوان المسلمين، تحقيقا للديمقراطية، ولكنها ترى أنهم «دخلوا فى حوار سياسى مع النظام قبل سقوطه، واستطاعوا تحقيق مكسب الشرعية، والسماح لهم بإقامة حزب سياسى»، ورغم إيمانها بأن لهم الحق فى ذلك، أرعبتها فكرة العودة للصوت الأحادى، تقول: «كان هذا الصوت الأحادى للحزب الوطنى، ولا نريد العودة إليه بالإسلام السياسى، سواء عن طريق الإخوان، أو السلفيين أو غيرهما»، وما زاد خوفها أن الإخوان «سوف يكونون أكثر المستفيدين من الثورة، التى ساهموا فيها ولم يصنعوها، فهم منَظمون ولهم باع طويل فى العمل السياسى السرى». شعرت بإمكانية إصابة الثورة فى مقتل، وهدم فكرة التعددية، وتوازى شعورها مع توالى حوادث الفتنة الطائفية، والتعرض للكنائس بالهدم والحرق، راودتها فكرة الدفاع عن الدولة المدنية، وقررت إطلاق موقع إلكترونى، تموله مع زوجها ليحمل العنوان صريحا:www.dawlamadaneya.com هى ترى أننا فى دولة مدنية بالفعل «ولكن بها من التناقضات ما يحد انطلاقها بمعناها الحقيقى»؛ ولأنها تدّرس السينما، وتربت فى ظل مكتبة سينمائية مذهلة ترجع لأبيها رائد الأفلام التسجيلية، تعرف أن «الصورة أكثر تأثيرا من ألف مقال»، فكان من المهم بجانب نشر المقالات والأبحاث التى تعرّف حقيقة الدولة المدنية على موقعها الإلكترونى، «بث أفلام قصيرة يتحدث فيها من يستطيع التعريف بالدولة المدنية، وشرح الأمر دون تعقيد». ولكن رغم أثر الإنترنت وانتشاره، ما زالت شريحة كبيرة من المصريين لا تتعامل معه؟. أسألها فتجيب: «هذا الموقع لطلبة المدارس والجامعات وناشطى حملات التوعية الذين يستطيعون استخدام المادة فى حملاتهم، ولا أجد غضاضة فى استخدام هذه المادة من قبل جهة أو شخص يريد الاستفادة بها، ودون المطالبة بحقوق ملكية. كانت تتحدث، وكأنها أتت بنتائج إيجابية، أو أن هناك ما يدفعها للتفاؤل، لمّا سألتها قالت إنها وجدت ردود أفعال رائعة، ولكن لم تفتها الإشارة إلى بعض المقاومة، التى لم تكن فقط من الرافضين للدولة المدنية بغير فهم، ولكن البعض فضل إرجاء هذه المعركة والالتفات إلى قضايا يراها أكثر آنية، فصدّرت لهم شعارها: «بالأمس لم يكن الوقت مناسبا، وغدا يكون الوقت قد فات»، تقول: «إذا كنت تؤمن بالفكرة، ونحن فى سياق ثورة للتغيير، والمفترض أننا نخلق مناخا ديمقراطيا جديدا، فلا يجب التهاون والتأنى فى التعبير عن الرأى». وإذا كانت قد وجدت صيغة للتفاهم مع هذا النوع من الرفض، فيبقى الأصعب، الرفض من زاوية دينية، الفكرة الأسطع عند العامة، المدنية تعنى الإلحاد، فراحت مستغرقة فى «نحت متكرر»، وعملت على تطوير لغة التخاطب، والتعريف بأن «المدنية تكفل جميع الاديان، وعقدت أكثر من ورشة عمل، فضلا عن الندوات، فلاقت استجابة كبيرة للفكرة بعد شرحها وتبسيطها لتفهم على حقيقتها». لفتنى قولها فى حوار صحفى: «لا أتوقع رئيسا إسلاميا لمصر»، ذكرتها بالمقولة، خاصة مع تأكيدها استجابة المتلقى للفكرة، ثم ننظر فى الجهة الأخرى فنرى حوادث طائفية: ما الذى يعكسه هذا فى رأيك؟. أجابت: «كلنا بشكل أو بآخر متعصب لشىء ما، وينتمى إليه، ربما يكون هذا الشىء وطنك أو دينك أو المنطقة التى تسكنها، ولسنا مطالبين بإلغاء هذه الانتماءات أو الهويات التى نتعصب لها، هى حقنا الإنسانى، أعى هذا الأمر، بل إننى أيضا لدى انتماءات وأولويات، ولكن يجب ألا يفصل بيننا هذا الانتماء، لأن هناك عقدا اجتماعيا، وأنت كفرد داخل نسق مجتمعى لابد أن تخضع لقانون واحد، يطبق علينا نحن الاثنيان أيا كانت هويتك وهويتى، والقانون غائب، أو موجود وغير مفعل، ففى أحداث ماسبيرو وإمبابة وقبلهما أطفيح ونجع حمادى، هناك محاكمات يجب أن تتم، وأحكام لابد من تنفيذها، ماذا يعنى الحكم على شخص بالإعدام لأنه قاتل، ويمر هذا الوقت دون تنفيذه؟، تتساءل، وتكمل: جزء من المشكلة يتمثل فى تعامل الناس على أساس أن الدولة سقطت بهيبتها ولا يوجد من يحكم أو يعاقب. بالعودة للآراء التى فضلت تأجيل الحديث عن المدنية، ما فهمته من كثيرين هو ترجيحهم تجنب الحديث عن تعديل المادة الثانية من الدستور، والتى تقضى بأن دين الدولة الإسلام، وليس المقصود تأجيل طرح فكر المدنية ككل، أليست هذه فكرة لائقة كى لا يجد مشعلو الفتن فرصة جيدة؟ تجيب: المشكلة أننا نتعامل مع الثورة باعتبارها مرحلية، و«بعكاكيز»، عندما سار عدد من النساء فى مظاهرة مطالبات ببعض الحقوق، قوبلت بهجوم شديد، من منطلق أنهن سيدات وعليهن التزام المنازل، رغم مشاركتهن فى وقائع إسقاط النظام، وهذا تراجع عن هدف رئيسى للثورة، وهو عدم التمييز على أساس النوع، والمثال ذاته ينطبق على تعديل المادة الثانية، ولم نقل إلغاء، مصر كان بها دساتير سابقة، ودستور 1971 هو الذى عدلت فيه المادة الثانية سنة1980، تلك الدساتير السابقة كانت صالحة للمصريين وكلها حققت الدولة المدنية، ولا أستطيع اليوم المناداة بالمدنية دون أن أنادى بتعديل المادة الثانية، والمسألة لا تحتاج إلى نفاق أو تحايل، ثورة تعنى راديكالية، إما أن تقبل الرؤية الكلية للتغيير، أو تعتبرها ثورة «نص نص»، وتستطيع اعتبار هذه النقطة رسالة أساسية توجهها الدولة القوية إلى كل من تسول له نفسه عمل فتنة طائفية، ورسالة أيضا للأقلية، ولن أقول الأغلبية، السياسية التى تريد تطبيق الشريعة الإسلامية فى الحياة السياسية. تكمل: أنت لديك نموذجان فى هذه المسألة، التونسى والتركى، الأول يقول إن دين الدولة الإسلام، والثانى لا يقول شيئا، وأنظر الآن للفرق بينهما، وتذكر أن إحدى الدولتين كانت مقر الخلافة الإسلامية. قلت لها إن المسألة تحتاج إلى وقت طويل، فلابد من إصلاح التربية والتعليم والخطاب الدينى، قاطعتنى: والإعلام، أليس له دور؟. دائما نرى الإخوان والسلفيين على القنوات وفى الصحف يشرحون لك موقفهم، فلماذا لا تعطى الفرصة للآراء الأخرى بنفس الانتظام؟. قرأت فى مقالك على موقع «دولة مدنية»، إنك كنت مهمومة بورقة بحثية عن صورة القبطى فى السينما، وكانت كلماتك موجوعة بشكل كبير. كنت أشارك فى مؤتمر بإحدى الجامعات الكندية، وأحضّر للحديث عن الأفلام التى تنتجها الكنيسة، وعن صورة الأقباط فى السينما المصرية، هذه الأفلام التى تنتجها الكنيسة، توازى المسلسلات الدينية الإسلامية التى تذاع فى التليفزيون، ولك أن تتخيل بالطبع أن هذه الأفلام لا تباع إلا فى المكتبات القبطية، فليس من المسموح عرضها فى التليفزيون، وهو من نماذج عدم المساواة، وتزامنت مشاركتى هذه مع أحداث كنيسة القديسين، فتصور أننى أعمل على هذا الموضوع فى هذه الأجواء، وكانت ورقتى فى ختام المؤتمر، ورغم أنها قوبلت بشكل جيد إلا أن هذا لا ينفى مرارة المسألة. دعينا نوضح للقارئ مفهومك عن الدولة المدنية بشكل مباشر؟. المدنية هى دولة تعتمد على عدة مبادئ، أهمها فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية، وليس مجرد ألا يكون الحاكم إسلاميا، فمن الممكن ألا يكون كذلك، ولكن فى ظل تدخل المؤسسات الدينية بالسياسة، وبالمناسبة، أعنى بالمؤسسات الدينية هنا الإسلامية والقبطية، ثانيا المساواة فى الحقوق والواجبات أمام القانون، فضلا عن انتمائنا جميعا لكلمة «مصر»، لا لكلمة مسلم أو مسيحى. ولهانا الحديث فى السياسة عن التعرض لأعمالها الأدبية، والتى يعدها كثيرون من أهم تجارب هذا الجيل، فإنجازها ترجم إلى حوالى ست لغات أوروبية ضمن برنامج «ذاكرة البحر المتوسط»، وحصلت على جائزة «آرت مار» من فرنسا وجائزة الدولة التشجيعية من مصر، ولكن راودنى سؤالها فى نهاية الكلام عن التناول الأدبى للأحداث الكبرى، ونحن نعرف أن المناسبات لا تصلح للفن، وأن تناول القضايا والأحداث الكبرى بشكل مباشر فى الأدب يفسده، ولكن أمامنا الآن مشكلة، فالثورة تجاوزت حد الحدث أو المناسبة، وأصبحت هى الأجواء والحياة، فهل هناك مفر من الكتابة فى ظل هذه الحياة؟ تقول: أتفق معك فى أنه لا يوجد مفر، ولكن هناك فكرة أنتهجها، وأعتقد أنها صالحة لهذا الظرف، أنت تستطيع كتابة نص أدبى يحمل تجربتك مع الثورة ولكنه لا يحمل سطرا عنها، ناهيك عن أن الحدث أكبر من استيعابه سريعا، ونحتاج لسنوات كى نهضمه، أنا لدى رواية جديدة، كنت انتهيت منها، وأراجعها حاليا، ورغما عنى وجدتنى أعيد كتابتها بالروح الجديدة، مع مراعاة أن الصوت الزاعق والثورى يفسد الأدب، ولكنك تضخ هذه الحالة فى الشخصيات، تثّور الشخصية مثلا، حتى ولو لم تكن 25 يناير هى المضمون. وازدادت ابتسامتها: 25 يناير الذى لن نعود كما كنا قبله تانى.. ذكرتنى هذه اللحظة، بجملة فى مقالها عن الدولة المدنية، محاولة إقناع القارئ بأنها لا تستدرجه إلى منطقة سياسية معينة، فتجاذبه بلطف: لا تصدقنى، ولكن صدق أننى صادقة.