كانت الحشود المليونية فى ساحة التحرير بالقاهرة بمثابة رد واضح وحاسم على من اعتدى وحاول تحريف الثورة عن انسانيتها وقيمها، التى تسعى ثقافتها المستنيرة إلى ترسيخ المواطنة وما تستولده من تجاوز ما يفرق، ويعزز ما يجمع ويلملم، لأن ما حدث فى إمبابة بتاريخ 12 مايو الماضى كان من شأنه تلويث الإنجاز الملهم وإحباط الحلم الواعد وتعميم أسلوب ووسائل التخويف حتى تبقى الازدواجية الطائفية سائدة، وتبقى شريحة من الشعب سجينة الخوف والتقوقع، ما يؤدى إلى شرخ مهيب يهدد ما تم انجازه، بل ومحاولة عرقلة مسيرة الثورة من خلال الاستفزاز والإثارة. لذا جاءت المظاهرة المليونية يوم الجمعة رادعة للتمادى فى استباحة قيم وأخلاق وسلامة نهضة واعدة، لا لمصر وحدها بل للأمة العربية باسرها، لذا كان شعار الوحدة الوطنية وارتباطها الوثيق بقضية تحرير فلسطين بمثابة تأمين هدف الثورة كرامة الإنسان والأمة. ••• إلا أن تجنيب المرحلة الانتقالية فى مصر، والتى تدير العديد من خطواتها قيادة القوات المسلحة، بعض سوء الفهم قائم على مهامها ودورها، لذا أعتقد أن ظروف تسلم مهام إدارة المرحلة الانتقالية تتطلب توضيحا مثل مهام ودور شباب الثورة والحكومة الانتقالية. أريد الإشارة إلى الحاجة لمزيد من وضوح صلاحيات وحدود كل الأطراف فى المرحلة الانتقالية وتعقيداتها، حتى تستقيم إدارة المرحلة وتزول بعض الصعاب والاختلافات. فعندما قامت ثورة الجماهير فى جميع أنحاء مصر، انحصرت وحدة الهدف بإسقاط النظام، برغم محاولات القمع التى قامت بها الشرطة بتعليمات من قبل أجهزة الأمن التابعة للنظام البائد، وعندما حصل تهديد ومن ثم قتل لعدد من المتظاهرين، خاصة فى القاهرة والإسكندرية وغيرهما من المحافظات، تدخل الجيش بهدف حماية الجماهير المحتشدة، واعترفت قيادته بشرعية الثورة، مما جعل الشعب يبادله الاعتراف بشرعية إدارة المجلس العسكرى مع بعض التحفظات. كما أكدت قيادة الجيش التزامها بتنفيذ مطالب الشعب مثل إقالة كل من الرئيس مبارك ونائبه، وتجاوب الجيش مع تسريع قيام حكومة انتقالية مؤقتة، ريثما يتم إعداد الدستور الجديد وانتخابات مجلس النواب ورئيس الجمهورية. وعلى الرغم من وجود بعض التباينات والاختلافات بين الفترة والأخرى إلا أن القيادة العسكرية كانت تستجيب وتعمل على تنفيذ معظم أولويات ثورة الشباب، تاركة معالجة القضايا المصيرية والبت فيها للحكومة الانتقالية المؤقتة، ويشار إلى هذا الموضوع بالتركيز على الشرعية المتبادلة لظهور بعض الشكوك حين قررت شرائح مليونية يوم الجمعة الماضى مشاركة شعب غزة فى ذكرى النكبة، خاصة أن الحكومة المؤقتة قد اتخذت قرارا حاسما بإعادة فتح معبر رفح وإنجاح المصالحة خاصة بين فتح وحماس، علما بأن وحدة مرجعية القيادة الفلسطينية تحتاج إلى مزيد من المجهودات، المصرية خاصة. صحيح أن اندفاع شرائح كبيرة كانت راغبة فى الذهاب إلى قطاع غزة يدل على التزام قومى لحق فلسطين فى إقامة دولتها ذات السيادة على أراضيها وعاصمتها القدس والتزام حق العودة، إلا أن هناك رأيا يعتبر ان خططا اخرى مطلوبة لإنجاح مسيرة التحرير الفلسطينية، وهذا لا يتم الا من خلال خطوات مدروسة بدقة لإزالة تراكم الأثقال التى تنبئ معاهدة الصلح بإزالتها بالسرعة المرغوبة. لذا قد يكون التباطؤ فى تلبية أنبل الأهداف «الزحف إلى غزة»، يبرر التشكيك والاستياء. فرغم القضية التى نتفهمها ونشعر بها، فإنه هنا يجب اتباع منهج الصبر الثورى لضمان سرعة الإنجاز واجتناب التسرع، رغم الغصة المشروعة التى أشرنا إليها. ••• لذا أمام التحديات التى تواجهها ثورة مصر، لابد أن تكون الأولويات واضحة ومدروسة، ومنها شرعية المساواة فى حقوق ما تنجزه المواطنة، لا التكاذب الكامن فى «التعايش بين المسلمين والأقباط»، بل إن المواطنة تجعل الجميع متساويا فى الحقوق والواجبات بدلا من نظام «الحصص». بما يحرض على تنظيم الأحزاب بوضوح الرؤى والسياسات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية. هذا يتطلب من الذين بادروا فى تعبئة الجماهير لثورتهم الملهمة، أن ينظموا أنفسهم بما يساهم إلى حد كبير فى استقامة مناعة الثورة ضد أى اختراقات ظلامية وإعادة هيكلة تيارات عقائدية إصلاحية، والانضباط فى أطر يتم من خلالها التنافس فى الانتخابات القادمة، بما يخرج الثورة من احتمال تبعثر جهودها، وتعثر خطواتها. كما يضمن استمرار مسيرة التطور والإنتاج وتأكيد ثوابت الثورة بما يجعلها قادرة على التكيف مع المتغيرات دون أن تكون المستجدات بالوعة للثوابت المبدئية الراسخة فى ثقافة 25 يناير. ••• إن ثورة مصر مطالبة بتمكين الثورات العربية والانتفاضات الحاصلة على مستوى الأمة، كى تختزل المعاناة وتمنع أى احتمال لإجهاضها أو قمعها، فمصر الثورة هى الوعد الذى طال انتظاره.. وما أنجزته فى فلسطين برهنة على أن مصر العروبة هى التى ستعيد أهلية العرب لصناعة تاريخهم من خلال استعادة حقهم فى صناعة مستقبلهم، ويظل الحاضر الآن هو التحدى.