بما أن الخريطة الإدراكية هي المسئول اللاشعوري عن كثير من الأحداث في حياتنا اليومية، يمكننا اللجوء إليها كنموذج تفسيري لفهم احتجاجات محافظة قنا. يبدو أن ما يحدث فى المحافظة هو نتاج لما ترسب فى الأذهان من أحداث ارتبطت بالعلاقة بين المسلمين والمسيحيين. أليست قنا هي المحافظة التي حدثت فيها مجزرة عيد الميلاد ضد المسيحيين؟ أليست هي التي حدثت فيها أحداث فرشوط؟ أليست هي التي قُطعت فيها أذن أحد المسيحيين؟ إذن لابد من إرسال محافظ مسيحي حتى تتوقف هذه الاعتداءات! فالمحافظ رمزاً للسلطة المتمركزة فى العاصمة وهو رمز السلطة أيضا باعتباره -هذه المرة- لواء في جهاز الشرطة. فإن كان رمز السلطة ينتمي "للأقلية العددية" فإن ذلك وبطريقة ما سيخلق التوازن المطلوب ويعيش الطرفان في سبات ونبات! إن هذا الاختزال الإدراكي لمحافظة قنا هو ما أثار حفيظة القنائيين الذين لم يعترضوا على المحافظ السابق اللواء مجدي أيوب، وهو مسيحي أيضا، إلا بعد أن ظهرت لهم وللمسيحيين في قنا مشاكله الإدارية، فقد حدثت معظم المشكلات بين الطرفين في عهده. لقد وجد أبناء قنا في تعيين محافظ مسيحي للمرة الثانية على التوالي ما يعد تكريسا لتصور مفاده أن حماية المسيحيين في قنا قد يتحقق بتعيين محافظ مسيحي. كما أنه يرسخ أيضا لفكرة الكوتة التي تعيد إنتاج التمييز أكثر مما تحاربه. فالقنائيون يتسائلون: هل ستصبح قنا كوتة الأخوة المسيحيين؟ إن الأمر الذي صدم أهالي قنا هو نفسه ما صدم المصريين قبل الخامس والعشرين من يناير عندما أدركوا أنهم سيورثون لابن الرئيس المخلوع. ورغم أن الفارق كبير بين الحالتين، إلا أن تظاهر أهالي قنا في بداية الأمر قوبل بتجاهل واضح من الإدارة المركزية في القاهرة مثلما قوبلت مشاعر المصريين بالتجاهل قبل ذلك. إن المحافظة التي أهملت لفترات طويلة مع أخريات تم إهمالها فى وقت الأزمة. والغريب أن الدكتور عصام شرف - وهو من رجال مصر المحترمين - لم يتطرق لما يحدث في قنا في خطابه الأسبوعي "للمواطنين"، رغم أن الأحداث كانت قد دخلت يومها الخامس وقتئذ. فهل لا تزال الخريطة الإدراكية لحكومة مصر تقتصر على المحافظات المهمة؟ أو ليس غريبا ألا يوجه رئيس الوزراء أي بيان لأبناء المحافظة؟ صحيح أن الدكتور شرف قد أسند الملف لوزير الداخلية ولوزير التنمية المحلية. لكن إرسال وزير الداخلية وهو من أبناء قنا يشير إلى بعد إدراكي آخر (قديم) له علاقة بالقبلية في الوقت الذي كان يجب التعامل معهم باعتبارهم مواطنون لهم مطالب يُرسل إليهم من يستطيع حل الأزمة وليس من يلقي ترحاب منهم لمجرد أنه من ذوييهم (وهذا هو الشق الأول من "ذهب المعز وسيفه"). إن عدم اكتراث الحكومة المركزية بما يحدث في قنا إلا بعد توقف حركة القطارات لا يوحي بتغير كبير في علاقة المركز بالأطراف. فهذا الإدراك يختزل الأطراف في كونها مجرد آلة انتاجية يُلتفت إليها فقط عندما تتوقف عن العمل. وهذا ما عبر عنه ضمنيا الدكتور عصام شرف عندما قال في كلمته أنه إذا كان لأحد طلب فليلجأ للحوار ولا يلجأ إلى إيقاف حركة المرور. ثم صاغ الأمر في صبغة إنسانية حيث قال أنه من الممكن أن يؤدي تعطيل المرور إلى تأخر مريض عن موعد الطبيب. وهذا بالطبع صحيح مثله في ذلك مثل حرية المواطنين في اختيار من يحكمهم. وما يعد أسوأ من هذا الاختزال هو أن أول تصريح يأتي من مجلس الوزراء بشأن ما يحدث في قنا جاء ليحمل تصنيفا للمشكلة بأنها "انفلات أمني" ومن ثم تم تكليف وزارة الداخلية بعمل اللازم (الشق الثاني من "ذهب المعز وسيفه"). وفي ذلك أيضا تأكيد لنفس النموذج الإدراكي القديم الذي يرى محافظات الصعيد على أنها خطر أمني، رغم أن أهالي قنا قد تظاهروا سلميا لثلاثة أيام دون أن يهتم بهم أحد. فما الذي تغير حيال أهل الجنوب بعد 25 يناير؟ الأمر في جوهره بعيد عن المسألة الطائفية رغم دخول الشعارات الدينية بين الهتافات. فلم يقم المتظاهرون بمهاجمة الكنائس. ولم نسمع أنهم تعرضوا بالأذي لأي من إخوانهم المسيحيين في قنا. ولم يطالب المحتجون بألا يعين المسيحيون في مناصب قيادية في مصر. المشكلة إذن إدراكية في المقام الأول. فالحكومة تعاملت مع المحافظة بخريطة إدراكية قديمة. كما أدرك أبناء المحافظة الأمر على إنه تكريس لوهم غير موجود من وجهة نظرهم وهو أن المسيحيين في قنا "مضطهدون" وأن الأمر يستلزم تعيين محافظَيْن مسيحيَيْن على التوالي لضبط العلاقة بين الطرفين. وحتى عندما مارس القنائيون حقهم في التظاهر السلمي لم يلتفت إليهم أحد، مما عزز لديهم نفس النمط الإدراكي القديم بأنهم غير ذوي أهمية طالما أنهم يعيشون على حواف الوجود المصري. وربما يجدر القول في هذا السياق أن تنتبه الحكومة المصرية إلي ضرورة أن تضم المجالس الحكومية كالمجلس القومي للمرأة ومجلس حقوق الإنسان وغيرها عضوا/عضوة من كل محافظة مصرية يكون اختياره بالانتخاب ، وذلك على السبيل المواطنة التي اختُزلت -بكل أسف- في نموذج إدراكي قديم يقصرها على التساوي في الحقوق والواجبات بين المسلمين والمسيحيين، وليس بين المواطنين في كل محافظات مصر. وبالتالي تحولت معظم مشكلات المواطنين إلى مشكلات طائفية! والله أعلى وأعلم.