أصبح للإعلام سلطته وآلياته الذاتية فى تناول القضايا المجتمعية والتى منها أخبار وتغطيات القضايا والمحاكمات فأصبحنا نقرأ فى الصحف تغطية خبرية لقضايا منظورة أمام المحاكم تمتلك عناصر الإثارة الإعلامية المطلوبة لتحويلها مادة مُستهلكة إعلاميا. وتتلو التغطية الإعلامية كتابات وتعليقات فى الصحف وبرامج الفضائيات بل والمنتديات والشبكات الاجتماعية بما يجعل الحكم القضائى محل تعليقات جريئة. ولم نعهد هذا الأمر من قبل، إنه أمر جديد وخطير على طُرق تدبيرنا للحقيقة، وإن من القضاة من يطالب الآن وبحق بتغليظ عقوبة نشر أمور من شأنها التأثير الإعلامى على القضاء المنوط بهم الفصل فى دعاوى مطروحة أمامهم وتوسيع النص بشموله أى وسيلة نشر أخرى ليس الصحف والمجلات فحسب، بل بأى وسيلة أخرى يتم خلالها تناول القضايا المنظورة أمام القضاة بما يؤثر بالقطع على حيادية القاضى، لكونها جريمة مؤثمة قانونا «بموجب المادة 187من قانون العقوبات». ورغم أنه مثلما يحرص القضاة على استقلالية القضاء، فهم بوصفهم ضمير الأمة يحرصون على عدم الافتئات على حرية واستقلالية الإعلام بكافه صوره، فما الذى يضير القضاء فى أن يغطى الإعلام القضايا المنظورة، بحيادية وتجرد ومهنية، ودون استباق الأحكام وعقد المحاكمات الموازية، كما نجدها الآن بما يسمى برامج التوك شو من استضافة بعض القانونيين أو أصحاب الفكر واستدراجهم للتعليق والتوقع لما يجب أن تكون عليه إجراءات المحاكمة بل وتوقع العقوبة المفترضة على المتهمين قبل إدانتهم بحكم نهائى من قاضيهم، فأى عبث هذا، وأى إكراه معنوى يمارس على القاضى، وأى تشهير بحق المقدمين للمحاكمة؟. انظروا يا أولى الألباب فى الأنظمة القضائية التى يعتمد حكم الإدانة فيها على المحلفين وليس على القاضى كالنظام الأمريكى ففيه تلجأ السلطات القضائية إلى عزل المحلفين بشكل كامل عن الإعلام طيلة أمد نظر القضية المعروضة إن كانت تلك القضية مُتناولة من قبل الإعلام. والعزل هنا يعنى حجب كل وسيلة إعلامية عن المحلفين من صحف ومجلات وراديو وتلفاز. تلجأ السلطات لتلك الطرق القاسية على المحلفين لأنها الأصوب، من الناحية الحقوقية القانونية، لضمان عدم تأثرهم فى تكوين قناعاتهم بأى مؤثر خارجى خلافا للمعروض عليهم من معطيات القضية المنظورة. هذا عن المحلفين فما بالكم بالقاضى. ●●● ففى الوقت الذى يلتزم القضاء بحياديته واستقلاله، فانه يسعى إلى تحقيق العدالة دون تغليب أى طرف من هذه الأطراف على الآخر، معتمدا فى ذلك على ما يتوافر أمامه من أدلة وأسانيد فى القضية، ولا يمكن للقاضى بأى حال أن يعتمد أو يستند لما تعرضه وسائل الإعلام من طرح بشأن قضية ما أو حتى يعتقدها صحيحة، كما لا يمكن أيضا اعتماد وجهات النظر والآراء التى يقوم الإعلام بالتركيز عليها لأنها تعتبر خارج إطار الدعوى المنظورة، إذ إنه من القواعد القانونية المستقرة وتأكيدا لمظاهر الحيدة، يجب أن يقتصر القاضى فى استدلاله فقط على الأدلة المطروحة أمامه والمقدمة من الخصوم، وفقا للطريق الذى رسمه القانون لتقدمها. ومن ثم فلا يستطيع القاضى الاستناد لعلمه الشخصى بواقعة معينة متعلقة بموضوع النزاع، ولا يستطيع أيضا أن يبنى حكمة على دليل تحراه بنفسه خارج منصة القضاء وجلسة المحاكمة.. ومن ثم فلا مجال للإعلام فى تبرير أو خلق صورة متناقضة أو متعارضة مع النص العقابى والدفع باتجاه تشكيل رأى أو حشد باتجاه معين مخالف لهذه المصادر وبالتالى الإساءة إلى القضاء، كما أنه يؤثر بالسلب نفسيا وعمليا على حسن أداء القضاء لمهمته النبيلة، وبالتالى يسهم الإعلام وفقا لهذا عن قصد أو حتى دون قصد فى الإضرار بقضية العدالة ككل. فقد نص قانون العقوبات فى مادته الرقيم 187على جزاء الجهة التى تنشر أمورا من شأنها التأثير فى القضاة المنوط بهم الفصل فى دعوى مطروحة أمام جهة من جهات القضاء، كما نص أيضا على جزاء كل من نشر بإحدى طرق العلانية أخبارا بشأن محاكمة قرر القانون سريتها أو منعت المحكمة نشرها، أو تحقيقا قائما فى جناية أو جنحة أو وثيقة من وثائق التحقيق أو أخبارا بشأن التحقيقات، وما يجرى فى الجلسات العلنية للمحاكم بسوء قصد ونية وبغير أمانة مهنية بمخالفة قرار المحكمة بسرية ما يجرى من تحقيقات فى القضية المنظورة أمامها. ●●● فبات من الضرورى معرفة الإعلام بواجبه فى هذا الشأن وتجنب الخوض فى تفاصيل القضايا المطروحة أمام القضاء ويقع على عاتق الإعلام الالتزام بالمهنية تجنبا للتأثير على ضمانات وإجراءات المحاكمة العادلة، ومن هنا يتعين حجب المعلومات عن الإعلام تجنبا لتلك النتائج التى تؤثر ليس على مسار القضية المطروحة فحسب، وإنما على القاضى بشكل غير مباشر وتمثل نوعا من الإكراه المعنوى عليه، بل وعلى العدالة بشكل مباشر. ●●● ووفق ذلك ينبغى أن تكون المعلومات المتوافرة أمام القضاء بعيدة مؤقتا عن الإعلام، وهذا الحجب من واقع الاستقلالية التى يتمتع بها القضاء، وهو أمر واجب التقدير والاحترام والالتزام به من الكافة، لأن التحليلات والاستنتاجات التى تنشرها وسائل الإعلام فى تناول قضية معينة، لم تزل معروضة ومنظورة أمام القضاء، ستؤثر سلبا فى تكوين قناعة ووجدان القاضى. وتتعارض أيضا مع الاعتبارات والضمانات التى وفرها القانون للمتهم فى ضمانات المحكمة المنصفة العادلة ويسبقها سرية التحقيق، وهذه السرية توفر الحماية للمتهم من كل تشهير يقع عليه، فالمتهم برىء حتى تثبت إدانته وأن نشر اى معلومات متعلقة بتحقيقات النيابة العامة قد تضر بمصلحة طرف من الأطراف، ولهذا جعل القانون جلسات التحقيق سرية بينما جعل جلسات المحاكمة علنية. بعد أن توافرت الأدلة، وقد تعقد المحكمة جلساتها بشكل سرى خلافا لمبدأ العلنية فى بعض الأحوال المنصوص عليها قانونا، ومن مقاصد العلنية هنا أن يثق الجمهور بحسن سير وأداء القضاء فى تحقيق العدالة والتطبيق السليم للقانون بما يحقق الردع العام. وعليه فالقضاء ملزم بالتمسك بالاستقلالية والحياد كمبدأ ثابت من الثوابت القضائية، يمارس مهامه بتجرد وحياد، ملزم بحسم القضية المعروضة أمامه فقط بأدلتها، دون أن يرزح تحت نير قيود وضغوط الإعلام، وأخيرا فإن ترسيخ هيبة السلطة القضائية واحترام استقلاليتها لا يكون بانغلاق القضاء كليا على الإعلام، إذا ما نظرنا إلى الجانب الايجابى لدور الإعلام المتوازن. الذى لا ينتهك المحظورات، فقد بات من الضرورى وجود تنسيق إعلامى بين عمل السلطة القضائية والمؤسسة الإعلامية، مثلما نجد أن رقابة الإعلام تعزز قوة ومناعة القضاء، باعتبار أن الإعلام بوابة المعرفة فى نشر الثقافة الإنسانية.