لا أبالغ عندما أؤكد أن الزواج والأسرة يستحقان أن يدرجا فى صدارة قضايا الأمن القومى المصرى، بعد أن أكدت الدراسات السسيولوجية أن الخطر الذى يتهدد المجتمع من الخلية الأساسية يمكنه أن يعصف بالمجتمع أكثر من غيره من الأخطار الأخرى، والتى اعتدنا أن نوليها اهتماما أكبر. فقد لاحظنا أن قوة الدوافع النفسية والاجتماعية نحو الزواج وبناء الأسرة لا تعادلها قوة التصميم على بقاء الزواج واستمراره، خاصة مع التعجل فى دخول النسق الزواجى بمنهج التجربة والخطأ ومنطق (الزواج بطيخة يا تطلع حمرا يا تطلع قرعة.. إنت وبختك..!). صحيح أن الزواج والأسرة يحتفظان بقيمتهما على قمة سلم القيم، وأن المجتمعات لم تجد على اختلافها مؤسسات بديلة عنهما لتولى مهمة إعادة إنتاج المجتمع ورعاية وتنشئة الأجيال القادمة، لكن الأداء الأسرى والزواجى يمارسان فى ظل تحولات اجتماعية أدت إلى تراجع قيمة المرأة وتدنى مكانتها، رغم ما يشاع زيفا فى الخطاب الاجتماعى السائد عما حققته المرأة من المكانة. مما أسفر عن حالة من حالات «الإشباع الوهمى» لدى معظم القطاعات النسائية من جهة، ولدى المجتمع المصرى من جهة أخرى بأنه لم يعد هناك حق طالبت به المرأة إلا وقد نالته. ولأن البناء الاجتماعى المصرى يتطور بصورة غير متساوقة فإننا نلاحظ أن حركة المطالبة بتحقيق العدالة الاجتماعية تتقدم، وهى مكبلة بصلابة منظومة القيم الاجتماعية المنظمة لعلاقة الرجال بالنساء. تلك العلاقات التى يعاد تشكيلها فى الآونة الأخيرة على أرضية خطاب دينى يرسخ التحيز ضد المرأة، وعلى أساس خطاب إعلامى مشوش يعيد إنتاج الصورة السلبية للمرأة، وبالتالى تفتقد حركة تحرير المرأة إلى صحبة الخطاب التقدمى ومساندته، وتهدر التقاليد الجامدة والأفكار الرجعية طاقة هذه الحركة. كما أننا نشهد حالة من تدنى قيم الشهامة والرجولة والترفع عن الدنية، وهى القيم التى طالما تباهينا بأنها الصفات الأساسية فى رجالنا، بما يمكن أن نطلق عليه الاصطلاح الجغرافى الاجتماعى (نحر السمات الشخصية الرجالية)، وذلك نتيجة للتحولات الاجتماعية الاقتصادية، التى تنيخ بثقلها على عاتق الرجال الذين وقعوا بين شقى الرحى الاقتصادية، وذلك بعد أن أغلقت أمامهم فرص العمل فى وظيفة تصون الكرامة وتعطى الفرصة لتأسيس بيت زوجية معقول، وبين تفاقم التكلفة الاقتصادية للزواج، خاصة أن ذعر الأسر المصرية من احتمال طلاق بناتها بعد الزواج جعلها تغالى فى المهور والشبكة ومؤخر الصداق باعتبارها آليات تكبيل زوج المستقبل حتى لا يندفع إلى تطليق زوجته. ومن ثم نلاحظ اتجاه الرجال فى معظم الخلافات الزوجية إلى ممارسة العنف لاستكمال ملامح الذكورة والقوة المفتقدة، فضلا عن ممارسة «القهر الزوجى» كبديل عن الاحتواء العاطفى. ولا نقصد هنا إدانة الأزواج فقط، وإنما أيضا أقارب الزوجة من الرجال الذين يدخلون صراعات العلاقة الزوجية المتفككة فى دائرة لا نهائية ينتفى خلالها البناء القيمى وتبقى فقط ملامح ذكورة مشوهة. ومن المهم أن ننبه إلى أن انفراد الزوج بتطليق الزوجة قد ساهم فى جعل (يمين الطلاق)، هو الرمز (لتسلط) الزوج على زوجته، وليس فقط (لسلطته) فى إنهاء الزواج. ولهذا نلاحظ أن الأزواج يتكئون على هذه السلطة ليس فى إنهاء العلاقة الزوجية، وإنما فى تأديب الزوجة وترهيبها، حتى تنصاع لرغبة الزوج حرصا منها على الإبقاء على الأسرة والأطفال. ولذا يبرز يمين الطلاق كعقاب تأديبى لا يحمل فى معناه الحقيقى نية الطلاق، الذى ينهى العلاقة الزوجية بالفعل. ويحدث ذلك كثيرا على الرغم من التحذير المتكرر من رجال الدين للأزواج بعدم استخدام يمين الطلاق تحت تأثير السكر أو الغضب، طالما أن نية الطلاق غير مقصودة. ولذا يصبح التهديد بالطلاق والتلويح بإنهاء الزواج واحدا من أهم وسائل فرض السيطرة وسوق الزوجة إلى ما تكره كالاستيلاء على مالها أو منعها من زيارة الأهل أو استقبالهم. ولا يسعنا إلا أن نلاحظ تلك العلاقة الوثيقة، التى ظهرت بين أزمة التفكك الأسرى وأزمة الطبقة الوسطى المصرية، التى صارت تعانى من الانكماش الكمى والارتباك الكيفى، بعد أن كانت هذه الطبقة تمثل للمجتمع المصرى أهم آليات الدفاع عن تماسكه البنائى. وذلك لأن هذه الطبقة كانت تحمل على عاتقها مسئولية حماية النسق الأسرى وضمان حسن أدائه، ويبدو ذلك بوضوح من المتابعة التاريخية لمراحل ازدهار الطبقة المتوسطة وما ارتبط بها من ازدهار للنسق الأسرى وتحقيقه أعلى درجات الكفاءة والتماسك. والآن نلاحظ أن المجتمع يعانى حالة من «السيولة الطبقية»، التى انعدمت فيها الخطوط الفاصلة بين الشرائح الاجتماعية، فبرزت المدينة المصرية على شكل كتل حضرية ممزقة يغيب فى تكوينها الثقافى المهلهل الوعى الاجتماعى البناء، وتسود قيم الاستهلاك والكسب السريع، الذى ينفصل فى تحقيقه عن قيم الكفاح والانجاز، وقد انعكس ذلك كله على الأسرة، التى اختلفت فى بنائها ووظيفتها عما كانت عليه فى الماضى، فتراجعت قيم المحبة والتراحم والمودة بين الأزواج والزوجات والآباء والأبناء والأخوة والأخوات. وطرأت على العلاقات الإنسانية فى أشد أنواعها خصوصية وإشباعا، وهى العلاقة الأسرية، ما يمكن أن نسميه ب«التشيؤ»، حيث يتحول كل فرد من أفراد الأسرة إلى شىء مادى بالنسبة للآخر، وتراجعت القيمة الأسرية العائلية للشخص مقابل ما يمتلكه من مال، وصار إجماع الأسرة على رؤية موحدة للعالم وما تتمتع به من ثبات واتزان وتكامل واستقرار أمورا مشكوكا فى صحتها. ومنذ أن قامت «الدولة» بتطليق «المجتمع» طلاقا سريا غير معلن، صرنا نكتشف ملامحه كل يوم فى عمق تلك الهوة، التى صارت تفصل بين الدولة ومجتمعها، وأظن أنه لم يعد هناك مناص من أن يسعيا معا إلى وضع صيغة تضمهما معا من جديد.