صباح اليوم أعلن النائب العام المصري قراره بحبس الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك خمسة عشر يوماً على ذمة التحقيق ، ومن قبله صدر القرار بحبس نجليه علاء وجمال لنفس المدة . والحقيقة أننى عندما قرأت الخبر على موقع البي بي سي أصابتنى حالة من الحيرة الشديدة ، وهذه من المرات القلائل التى لا أستطيع أن أقف بالتحديد على حقيقة رد فعلى تجاه خبر أو حدث ما . أصبحت مشاعرى مضطربة ومتباينة ، والحقيقة أننى ظللت هكذا لفترة حتى استطعت أن ألتقط العناوين الرئيسية لتلك الأفكار التى عصفت بى خلال تلك الثوانى . وها أنا الآن أجلس لأكتب ، لعلى أستطيع ان أضع وصفاً محدداً لمحتويات هذه العناوبن . العنوان الأول : اللهم لا شماتة وهى أول كلمة تبادرت الى ذهنى ، وهو ذات العنوان الذى فاجأنى ، فقد كنت أتصور أننى سوف أفرح فرحاً شديداً عند سماع ذلك الخبر ، رغم استبعادى فى كثير من الأحيان لامكانية حدوثه ، إلا أن هذه الفرحة لم تحدث بالشكل الذى كنت أتوقعه ، ولم أجد فى نفسي تلك الفرحة ولا ذلك الاحساس بالانتصار ، فقد قفزت الى ذهنى صورة ذلك الانسان .. البنى آدم محمد حسنى مبارك .. رجل عجوز بلغ من العمر أرذله يجلس أمام قاضى التحقيقات الذى يواجهه بتهم وأفعال هو مسئول عنها ، فيرد ذلك المسن بنظرة دهشة وحيرة .. بعد أن أعيته الحيلة .. فمرة بكلمة وجهها الى شعبه سابقا يحاول فيها تبرئة نفسة من تهمة جمع المال الحرام ، ومرة بالمرض أو ادعاء المرض .. وهو مريض يقيناً ، إلا أن ذلك القاضى مازال مصمماً على ملاحقته بالأسئلة والاتهامات حتى داخل غرفته بالمستشفى الذى لجأ اليه . الحقيقة عندما نظرت الى ذلك العجوز والى حالته تلك .. لم أستطيع أن أشمت أو أفرح . بل راودنى احساس بالشفقة والحزن على بنى آدم من خلق الله أوصل نفسه بنفسه الى تلك الحالة شديدة الذل بعد أن منحه الله الفرصة لكى يصنع أمة ويسطر لنفسه مجد .. فى النهاية هو الآن عجوز مسن مسكين لا حيلة له ... فاللهم لا شماتة . العنوان الثاني : افرحى يا أم الشهيد تخيلت عندها صورة كل أم وأب أو أخ وأخت فقدوا ابن أو بنت بسبب ذلك الرجل المحبوس الآن ، وتذكرت دعواتهم ودموعهم ، وعيونهم الشاخصة الى رب السماء بأن ينتقم لهم من ذلك الرجل وحاشيته . تذكرت عبارة الموت فى البحر الأحمر ، وتذكرت التعذيب والقتل فى أقسام الشرطة ومكاتب أمن الدولة ، وتذكرت من قتلوا بدم بارد فى مظاهرة سلمية أو أثناء ثورة 25 يناير المجيدة . تذكرت شهداء فلسطين الذين قضوا بسبب دعم هذا الرجل للنظام العميل فى حكومة فلسطين ، ودعمه اللامحدود لليهود فى التضييق على شعب فلسطين وقتله بلا رحمة .. تذكرت الآلاف من شهداء العراق الذين قتلهم الأمريكان بعد تفويض ومباركة ذلك الرجل ، وتمريره للقرار الفضيحة بمجلس زعماء التآمر فى جامعة الدول العربية .... تذكرت هؤلاء الشهداء وغيرهم .. ثم تصورت فرحاً قلب ووجه أم الشهيد .. كل شهيد وقد بدأ يرتاح ، ويؤمن بعدالة رب السماء الذى تضرعت اليه ورفعت اليه دعوة مظلوم فاستجاب لها . فلا تكونى حائرة مثلى يا أم الشهيد .. افرحى فرحة صافية .. فرحة صريحة ، وزغردى ملء فيك .. افرحى يا أم الشهيد ، فقد استجاب الله دعائك وأخذ بحقك . العنوان الثالث : شقيقي سمير عرفه وهذه أول مرة أتحدث فيها عن أخى الدكتور الشهيد بإذن ربه سمير أحمد عرفه ذلك النموذج الانسانى الفريد والذى توفى غريقاً على سواحل الغردقة بينما كان يمارس عمله من أجل تحقيق جانب من الأمن الغذائي لمصر عن طريق أبحاث يجريها عن نوع من الاسماك يمكن أن يحل جزء كبير من هذه الأزمة ، تذكرت معاناة سمير مع أمن الدولة فى بلدتنا دسوق لمجرد أنه كان شاب يريد أن يتقرب الى ربه فالتزم وأطلق لحيته وصلى فى المسجد ، تذكرت تضييقهم عليه وحالة الرعب التى كان يعيشها هو ورفاقه فى مسجد (الأخوة) الصغير فى بلدتنا دسوق . تذكرت ذلك المشهد المرعب الذى رأيته من خلف شيش الشباك لصفوف من عساكر الأمن المركزى والمخبرين وضباط امن الدولة ، وهم يكادون يكسرون باب بيتنا فى الصباح الباكر لثانى أيام العيد .. تذكرت ذلك المخبر الغليظ وهو يمسك بذراعه بلا رحمة .. بينما كان سمير يتوضأ ، ثم لا يسمح له حتى باكمال الوضوء ، فيقتاده الى (البوكس) كما المجرمين .. تذكرت اقتحامهم لحرمة بيتنا وتدنيسهم اياه وقذارتهم عندما تعاملوا معنا وفتشوا بيتنا. تذكرت لوعة أمى وأبى على ولدهم الذى لم يتخطى الصف الثانى فى كلية علوم الاسكندرية . وتذكرت ايام سوداء عشناها لمدة ثمانية أشهر قضاها سمير بين قسم شرطة دسوق ، وسجن المنصورة ، وسجن مزرعة طرة .. مزرعة طرة ... هل هذا الاسم يعنى لكم شيئاً هذه الأيام ؟ ، تذكرت سمير وقد خرج من السجن وقد حفظ القرآن الكريم كاملاً ثم يكمل سنوات الجامعة بتفوق غير مسبوق فى قسم علوم بحار الاسكندرية ، وتذكرت حياتى معه فى ذات الغرفة على الكورنيش فى شقق سيدى جابر والابراهيمية ، وكيف تخرج بدرجة إمتياز هى الأولى منذ انشاء قسم علوم البحار فى كلية علوم الاسكندرية فى 1948 . سمير تخرج فى ذات العام بامتياز أيضاً من معهد إعداد الدعاة ، وحفظ بامتياز أيضاً القرآن الكريم على رواية ورش بعد أن جوده على رواية حفص . ثم تعيينه معيداً فى الكلية وحصوله على الماجيستير بامتياز أيضاً ، ثم رحلته للدكتوراة فى فنلندا ، تلك الرحلة التى ربما أثارت حوله العديد من العلامات ، سواء للمجرمين فى أمن الدولة ، أو على الصعيد الجامعي الفاشل والذى يحارب فيه كل ناجح ، وكيف كان يلقى درساً أسبوعياً فى جامع هلسنكى الكبير ، وجهوده فى توحيد فرقاء الدعوة الاسلامية فى شمال أوروبا فى مؤتمر بالنرويج ، وحصوله على تمويل لبناء مركز اسلامى كبير هناك . كان سمير عالم واعد نشرت أبحاثه فى المجلات العالمية المتخصصة منها أبحاث مشتركة مع علماء عالميين كبار ، وكان داعية اسلامى سلفى مستنير يدرك واقع أمته ، ويعمل علي اقالتها مما كانت فيه ، تعلم العلم وعمل به ودعا اليه . وفاة سمير كانت مريبة ، وفى توقيت غريب بعد اسبوع من حصوله على درجة الدكتوراة فى ذلك النوع من الغذاء البحري ، وبعد كل هذا السطوع العلمى والدعوى . وفاة سمير ملف غامض لا أنوى اثارته على أى صعيد ، فكل ما أملكه هو بعض الشواهد والاستنتاجات .. هذا كان أخى رحمه الله ، وقد تذكرته وانا لا أنساه .. عند سماع ذلك الخبر .. سمير كان محبوساً فى سجن مزرعة طرة .. وهم الآن محبوسون فيه . العنوان الرابع : عصام شرف كان من الثوار ، وحملوه على الأعناق فى عز الثورة ، وفى عز جبروت النظام البائد ، وهو الآن رئيس وزراء مصر.. تلك حقيقة صعبة التصديق . أحب ذلك الرجل ، وأتمنى من الله أن تكون حقيقته هى التى نراه عليها ، والسبب فى وجوده ضمن تلك العناوين أننى أحسبه مخلص فى حب هذا البلد ، وهذا نموذج لم نره كثيراً بل ربما لم نره على الاطلاق فيمن حكموا مصر خلال الحقبة الماضية التى حكمنا فيها ذلك الرجل المحبوس .. عصام شرف كان بالأمس .. 12 ابريل 2011 ، ذلك اليوم الذى شهد قرارات النيابة التى غيرت وجه مصر .. كان بالأمس مجتمعاً بفاروق الباز رجل مخلص آخر وكان القرار دراسة البدء فى تنفيذ مشروع ممر التنمية ... يااااه ... يا الله .. مصر على اعتاب مرحلة جديدة فى تاريخها تشهد فيه البدء فى تنفيذ مشروعات تنمية حقيقية وليست سبوبة للص كبير أو لص صغير .. الدكتور عصام أيضاً صرح امس بأن الطاقة الشمسية هى مستقبل الطاقة فى مصر . تذكرت مواقف الحكومات السابقة من مشروعات الطاقة الشمسية وعدم قناعتها بها ، وتذكرت أيضاً لقائى مع رئيس هيئة الطاقة الجديدة والمتجددة ، والذى لم يبد أى حماس للطاقة الشمسية ، فقط كان فرحاً بمشروع طاقة الرياح فى الزعفرانة وكأنه بداية ونهاية الطاقة الجديدة والمتجددة فى مصر . الدكتور عصام شرف : نتمنى أن تستمر معنا ، ونتمنى أن يكون عندنا رجالاً مخلصين مثلك .. يقودون أمتنا الى ما تستحق .. فقط ما تستحق .. لا الى ما قادنا اليه ذلك الرجل المحبوس . العنوان الخامس والأخير : أدر رأسك وعينيك وقلبك فى اتجاه آخر لننسى أمر الطاغية المخلوع وبطانته ، فأمرهم الآن بين يدي قضاء مصر العادل ، وقد أصبحوا ماض .. حقبة سوداء فى تاريخ مصر وانتهت .. نعم ، لتكن منا طائفة تحرص على محاكمة عادلة لهؤلاء .. طائفة متخصصة ..يكون هذا عملهم .. وليس كل الشعب ، ولتكن منا طائفة أخرى تحرص على جمع أموال مصر المنهوبة .. طائفة متخصصة ، وليس كل الشعب .. ولكن كل الشعب مطلوب منه الآن شئ آخر أكثر أهمية مما سبق كله .. كل شعب مصر مطلوب منه أن يكف عن الكلام ، والهتافات ، والشعارات ، فقد مارسنا منها الكثير جداً خلال الأيام الماضية .. لنترك كل هذا ، ونتفرغ جميعاً للبناء .. لبناء مصر الجديدة العظيمة المتقدمة علمياً وصناعياً وزراعياً وثقافياً .. المتقدمة دينياً وحضارياً ومجتمعياً .. الرحلة شاقة وصعبة كما هو البناء دائماً ، لكن هل من خيار آخر أمامنا ، هل منا من له أو يمكن أن يكون له اهتمام آخر غير بناء هذا البلد .. اقول كفى شعارات ، ولنبدأ عملياً فى مرحلة جديدة اختارنا الله كى نعيشها ونصنعها بأيدينا . الأمانة الآن ألقيت علي أكتافنا .. صارت مسئوليتنا بشكل شخصى وجماعى . ليبحث كل منا عن طريقة يبنى بها ، وليعمل أصحاب الرأى والخبرة والحكمة على توجيه من لا يعلم ، لنكن نسيجاً واحداً متناغماً لا متنافراً . الى كل من يقرأ هذا الكلام .. ارجوك انسى أمر ذلك العجوز المسكين حسنى مبارك . وأدر رأسك وعينيك وقلبك الى الأمام .. الى مستقبل مصر الذى هو مستقبلك ومستقبل أبنائك وأحفادك . انتهت العناوين .. وانتهى ذلك الاضطراب الذى عصف بى صباح اليوم .. وارتحت كثيراً ، وأنا الآن فى انتظار تحديد موعد مع احدى الجهات التى تدعو الى مستقبل الطاقة الشمسية فى مصر لنجتمع ونخطط كيفية العمل الجماعي المثمر فى هذا الاتجاه .. فماذا تنوى أنت ان تفعل .. ؟