عندما أطاعت صوفى جدها، ومشت ببطء عبر الصالة، شعرت كما لو أنها تقترب من شخصية ملكية، خصوصا أنها كانت من المحظوظين الذين «ينالون فرصة رؤيتها وحدهم». لم تشعر بطلة رواية دان براون الأشهر «شفرة دافنشى» بدهشة صارخة، ولا جمدتها، كما توقعت، لحظات ذهول أو عجب، وبدا لها الوجه الشهير تماما كما صورته الكتب. فوقفت هناك فى صمت بانتظار حدوث أى شىء. يتدفق المشهد دفعة واحدة، وأنت تقرأ خبرا بالحياة اللندنية حول نية باحثين استخراج رفات سيدة ثرية أملا فى أن تكون هى صاحبة لوحة ليوناردو دافنشى «الموناليزا»، وتجد فى الخبر الصغير إحالة لتأملات لا حصر لها. تستبعد الحديث عن عظمة البحث الثقافى، الذى يسير فى طريقه غير مهتم بالمحرمات والتابوهات السياسية والدينية، وتقنع نفسك بأن العالم تجاوز هذه المشاكل، التى نستغرق فيها وتلتهم سنوات العمر دون طائل. لكنك لم تستطع تجاهل تساؤل يفرض نفسه، حول لوحة صغيرة تجاوزت شهرتها الأفق، والجدل الذى تثيره، والفضول الذى يُحرّض على عناء إثبات هوية صاحبتها بعد خمسة قرون من الزمان، ومحاولة المؤرخ سيلفانو فينيستى فى «استخلاص حامض الDNA من جمجمة السيدة ليزا جيرادينى، لفهم العلاقة بين دافنشى، وصاحبة اللوحة». بفضول قاتل، تقلب صفحات جوجل بحثا عن حكاية الموناليزا. وتجد أن المعلومات الغزيرة المتوافرة، تتحدث عن تقنيات رسم مبتكرة، وكيف كان دافنشى أول من قدم الإسقاط المتوسط الذى يجمع بين الجانب والأمام، وأن هذه الطريقة كانت ثورية وقتها، وقلدها رسامون عظام معاصرون له مثل رافئيل، إضافة إلى منهج الرسم المموه، بحيث لا توجد خطوط محددة للملامح، بل تتداخل الألوان بصورة ضبابية فتعطى انطباع العمق فى الخلفية. معلومات قيمة، لكنّ عقلك ما زال رافضا لأن تكون هذه الأسباب وحدها سببا فى كل هذا الجدل، وكل هذه الشهرة. تستدعى «دان براون» مرة أخرى، ربما كان بطل روايته روبرت لانجدون، محقا، فالرواية، بجانب أحداثها المتخيلة، اتكأت على وقائع تاريخية، ومعلومات حقيقية، فصورت «اللوفر»، أشهر متاحف العالم، ببراعة، وتجلى كاتبها فى وصف ممراته وأماكن عرض أشهر الأعمال الفنية، وطرق إضاءته وتأمينه، والخلفية التاريخية لمبانيه، وساحته التى ترجع إلى عصر النهضة، واعتراض البعض على بناء الهرم الزجاجى الشهير فى هذه الساحة التاريخية، حيث إنه: «موغل فى الحداثة بينما تذكر مبانى اللوفر كلها بمجد فرنسا وتراثها العريق». ربما حاول المؤلف تصدير رأيه فى أفكار بطل روايته: «كان لانجدون يعلم أن المنزلة الرفيعة، التى تحتلها الموناليزا كأشهر تحفة فنية فى العالم، لا تعود إلى ابتسامتها الغامضة، ولا إلى التأويلات الغريبة، التى نسبها إليها بعض مؤرخى الفن والمتحذلقين ممن يؤمنون بنظرية المؤامرة. الأمر ببساطة هو أن الموناليزا كانت مشهورة لأن ليوناردو أعلن على الملأ أنها أفضل إنجازاته. كان يحملها معه أينما سافر، ومهما كانت وجهته، وإذا سئل عن السبب أجاب أنه: يصعب عليه الابتعاد عن أسمى عمل عبّر فيه عن الجمال الأنثوى». وبدلا من أن تشبعك السطور، تزداد شغفا بالعبقرى الإيطالى، الرسام والنحات والمعمارى والعالم، الذى كانت مكتشفاته وفنونه نتيجة شغفه الدائم بالمعرفة والبحث العلمى، وأثرت بعض أبحاثه، فى علوم التشريح والبصريات والحركة والماء، على عدد من اختراعات الزمان. يسكنك دافنشى ولوحته المحيرة، تتحدث مع الأصدقاء رواحا ومجيئا، تنتقل العدوى إلى بعضهم، ويذكرك أحدهم بواحد من أهم المؤلفات فى تاريخ الكتابة. تنتفض على طريقة «وجدتها» وأنت تمسك بنسخة الكتاب الذى يحتل غلافه وجه الموناليزا، تقرأ العنوان بنشوة: نظريّة التصوير تأليف: ليوناردو دافنشى ترجمة وتقديم: عادل السيوى تقلب الصفحات سريعا، وتجد ضالتك فى المقدمة، التى ضمّن فيها المترجم سيرة دافنشى: «فى 1502، يبدأ ليوناردو فى رسم الموناليزا، وهى صورة الزوجة الثالثة للسيد فرنشسكو، أحيطت هذه الصورة بعديد من الاجتهادات، التى وصلت إلى اعتبارها صورة ذاتية للفنان نفسه على شكل امرأة». رغم إشاعة هذه المعلومة وقراءتك لها أكثر من مرة، فإن السيوى يرى هذا التفسير متطرفًا فى الإسناد، حيث يعتمد أصحابه على الوقائع المتعلقة بشذوذ دافنشى الجنسى، ذلك الاتهام الذى يرجح البعض أن تكون الكنيسة وراءه، نظرا لخلافها مع شباب الفكر المتحرر، بينما توجد تواريخ ووثائق تؤكد وجود هذه السيدة بالفعل. تتذكر خبر الحياة اللندنية المنشور منذ أيام، وتربطه بمقدمة الكتاب الصادر عن الهيئة العامة للكتاب عام 1995. تستكمل حديث السيوى عن اللوحة والذى يعد تفسيرا آخر لشهرتها الطاغية: «هناك رأى آخر بأن هذه اللوحة رسمت بعد عامين من التوقف بسبب أزمة نفسية حادة داهمته بعد سقوط لوحته الكبيرة (معركة أنجيارى)، ويقال إن الموناليزا أعادت له الثقة فى قدراته كمصور محترف». تتجاوز سرحتك فى اللوحة، وتشعر بضآلة تأملاتك أمام تأملات هذا الرجل المعجزة، تأخذك مقارنته بين فن التصوير والفنون الأخرى كالشعر والموسيقى والنحت، وذلك الحوار المبهر المتخيل، بين شاعر ورسام، يحتشد كل منهما فى مواجهة غريمه لإثبات أن فنه أسمى من الآخر، وكيف يعتز المصور بفنه الذى يخاطب النظر، أسمى حواس الإنسان، وعندما احتكما للملك «ماتيا»، قال للشاعر: «عليك بالصمت، فاللوحة تتعامل مع حاسة ترقى وتسمو على الحاسة التى تخاطبها أنت، فخطابك موجه للعميان». تأتى عبارة الملك «ماتيا» كبوابة جديدة لبحر من الأفكار المتعلقة بالفنون على اختلاف مجالاتها، والفرق بين وسيط وآخر، وتعرف أن من سمات الكتاب العظام، قدرتهم على تجاوز الحدود الضيقة للكتابة كوسيط يخاطب «فقط العميان»، وتحويله إلى مشاهد بصرية لا غنى للعين فى التعامل معها. ترجع مرة أخرى إلى الصفحة الأولى فى كتاب «نظرية التصوير»، بعد قرار قراءته بالكلمة، أيا كان الوقت الذى سيستغرقه، وتجيئك الفقرة الأولى من مقدمة المترجم بسكينة، وكأنه شعر بحجم تساؤلاتك الخاصة بالظواهر القديمة واهتمام الباحثين بها لقرون، يقول: لبعض الكلام القديم عبق خاص، له سحر الصوت البعيد، تلك الغواية التى لا ينتهى فعلها بحلول التفسير، وفيه يكشف الماضى عن قيمته وفعله، وأهميته للحاضر المتجدد دوما.