نُذكّر فى البدء، أنه خلال الفترة السابقة على بداية سقوط الأنظمة العربية الاستبدادية والتى تمتدّ عدة عقود، استطاعت الثقافة العربية على رغم الشروط السياسية الصعبة، أن تستمر فى الوجود والارتقاء، متفاعلة مع أسئلة المجتمع ومقتضيات المُثاقفة الحاملة لإشكاليات جديدة، وبذلك تمكّنتْ من أن تصوغ متخيّلا جماليا واجتماعيا بديلا عن الموروث المأخوذ فى شرَك الجمود والماضوية. وهذا هو ما يُضفى على الثقافة العربية، طوال نصف قرن، منذ ستينات القرن الماضى، سمات الثقافة المقاومة بالمعنى العميق لِمَا هو قائم ومفروض من لدُن أنظمة متسلطة، فاقدة للبوصلة ومُفتقرة إلى الرؤية. إلا أن هذا الإنتاج الثقافى فى مجالاته المختلفة يظلّ بحاجة إلى الحماية والتّبريز والتّرويج، ليصبح مؤثرا على نطاق واسع داخل المجتمعات العربية، ويغدو منطلقا لتشييد ثقافة المستقبل. ومعلوم أن الدولة لا تنتج ثقافة أو تخلق إبداعا، لكنها مطالبة بحماية الثقافة وتوفير حرية الإبداع وشروط تداوله والتفاعل مع قيمه المواكبة لتطلعات المجتمع، خاصة فى سياق العولمة الربحية التى تسند ثقافة التسلية وتسطيح الفكر. ولا شك أن الثورات التى تخطّتْ العتبة الأولى وتلك التى هى على الطريق فى العالم العربى، تجد نفسها محاصرة بأسئلة المستقبل لتشييد النظام الديمقراطى، وتحديد آليات توزيع الثروات، وإقرار حقوق المواطنة وواجباتها.. ومن ثمّ، تأتى ضرورة التفكير فى ثقافة المستقبل بوصفها المصهر والحفّاز الوسيط، والراصد لحركة المجتمعات العربية وعلائقها بالأسئلة الخاصة والكوْنية. تكتسى ثقافة المستقبل أهميتها من أنها المدخل الطبيعى والضرورى للمراجعة والاستشراف وتقليب التُّربة، ونشر السماد، من أجل استنبات قيم سياسية واجتماعية وثقافية تستجيب لمرحلة الدخول فى مجرى التاريخ الإنسانى الحىّ الذى حجبتْه عنّا الأنظمة الفاسدة. بدلا إذن من أن نضيع فى متاهة «التنبؤ» بما سيكون عليه مستقبل الثقافة العربية، نقلب مركز السؤال لنجعله هو تحديد سمات ثقافة المستقبل التى نحدد ملامحها انطلاقا من معاينة الخصاص، واستحضار حاجيات المرحلة الجديدة، واختيار القيم والتصورات التى نعتقد أنها ستسهم فى بلورة ثقافة المستقبل المرجوّة. ومثل هذا التناوُل ينطوى على نوع من «التحيّز» الفكرى والقِيمى نُقرّ به ونأخذه على العاتق. نرى، من هذا المنظور، أن المرحلة التاريخية العربية الراهنة، المطبوعة بالمخاض والوعود والتغيير الحتمى للبنيات والعلائق والسلوك، تفرض على المفكرين والمثقفين الحرصَ على الطرح الجذرى لمجموع المعضلات والأسئلة التى ظلت كامنة فى الظل أو اللا وعى، أو لم تُطرح بدعوى أن أوانها لم يحِنْ بعد. وفى طليعة تلك الإشكاليات المُغيّبة، مسألة فصل الدين عن الدولة لتفادى الصراعات المغلوطة، واستغلال العقيدة فى شلّ عرَبة السياسة. لا مناص من رفع اللبس، والتأكيد على أن العَلمانية لا تعنى المس بحرية الاعتقاد والتديّن، بل تعمل على صيانته من أهواء ومصالح المتاجرين بالدين. وفى هذا الاتجاه، أجد أن المبادرة التى أقدم عليها مثقفون وشباب فى مصر، للمطالبة بدولة مدنية تفصل الدين عن شئون الدولة، هى خطوة تستجيب لشرط أساس فى بناء دولة الديمقراطية والحرية والمساواة. بطبيعة الحال، ستُلاقى هذه الدعوة اعتراضا ورفضا من المحافظين والمستفيدين من دور الدين الملتبس عندنا، ولكن طرح المسألة والتوسُّل بالحوار وتحليل الواقع المُتحوّل، كفيلان بإنضاج الفكرة وجعلها مقبولة من الأغلبية المشدودة إلى المستقبل. ولا بأس من التذكير بأننا «نسكن فى الثقافة، لا فى التقنية»، كما لاحظ ريجيس دوبرى، أى أن القيم الثقافية تصمد لفترات طويلة وتؤثر فى الوعى واللاوعى على السواء، بينما علاقتنا بالتقنية تظلّ خاضعة للتحولات السريعة التى تنتقل بها التكنولوجيا من اختراع إلى آخر، فلا تكون هناك صعوبة فى الانتقال. لأجل ذلك، تحتاج الثقافة دوْما إلى حوار وإعادة نظر ونقدٍ لتجديد القيم المتصلة بالمستقبل ومواكبة تحولات العلم والسياسة والاقتصاد، وحرية الفكر والجسد والاعتقاد... نتساءل الآن، على رغم ضيق المجال، عن السمات الأساس لثقافة المستقبل فى نظرنا؟ أظن أن محاولة الإجابة عن هذا السؤال، تقتضى الأخذ فى الاعتبار لفضاءيْن متحاوريْن ومتفاعليْن باستمرار: المستوى الثقافى القومى، ومستوى الثقافة العالمية. قوميا: نفكر، بالأخص، فى سمتيْن تجعلان من الثقافة ثقافة مستقبل: 1 توفير الشروط الضرورية لوجود الثقافة وإنتاجها، وذلك أساسا من خلال تحقيق دمَقْرطة الثقافة وديمقراطيتها. ونقصد بالدمقرطة جعل وسائل التثقيف المتنوعة فى متناول المواطنين من دون استثناء، بينما الديمقراطية الثقافية تعنى هنا، مساهمة الجميع فى إنتاج الثقافة بوصفها تعبيرا عن تجارب ومشاعر وخبرات وطقوس تشمل الشعبى الشفوى والتجليات الإبداعية والعالمة للثقافة.. وهذا العنصر سيعمل على تفعيل جدلية الثقافى والسياسى التى عاشت فى حال طلاق وتعارض طوال عقود الاستبداد الماضية. 2 السمة الثانية لتحقيق ثقافة المستقبل، تتكوّن من ثلاثة أضلاع: أ نقد الإيديولوجيات على ضوء الواقع العربى المتحوّل، بدلا من الاكتفاء بالنقد الإيديولوجى الرامى إلى استبدال إيديولوجيا بأخرى. ب إعادة النظر فى مضمون التعليم ومناهجه فى اتجاه خلخلة «اللا وعى الثقافى» حيث تُعشّش الأحكام المسبقة، ويسود النقلُ على العقل، والفكر الخرافى على التمحيص العلمى. وهذا يرتبط أيضا بجعل ثقافة المستقبل العربية تُسهم فى إنتاج المعرفة على النطاق العالمى، بدلا من مجرد استهلاكها. ج مساندة تحرير المرأة وتغيير وضعها الاعتبارى داخل المجتمع، وإدماج الأقليات من منظور الاعتراف بالتعددية الثقافية ومساهمتها فى إثراء الثقافة العربية. عالميا: تتصل ثقافة المستقبل، عالميا، بالمراهنة على العلم وكشوفاته غير المحدودة فى مجال التقانة والوسائط الرقمية ،وابتداع حوامل الثقافة السريعة التى تختزل المسافات بين أقطار العالم؛ وهذا جانب يدعم ظاهرة العوْلمَة بسلبياتها وإيجابيتها. والعنصر الثانى البارز فى ثقافة العالم المستقبلية، هو الحرص على تصحيح الديمقراطية التمثيلية والبحث عن نظام اقتصادى يحدّ من كوارث الفروق الطبقية، والأزمات المالية المتكررة... والسمة الثالثة، يمكن أن نجدها فى تصاعُد نقد المفكرين والفلاسفة لأنموذج الحضارة الغربية الذى أدّى إلى الوقوع فى شرَك التكنولوجيا المفرطة، وما أدت إليه من تحطيم للطبيعة وتسميم للمناخ، وتهديد لأمن الناس، على نحو ما نشاهده الآن من انفجار للمركب النووى فى اليابان. ومن ثم فإن الدفاع عن البيئة أصبح سمة جوهرية فى بلورة ثقافة المستقبل على المستوى العالمى. هكذا يتضح أن التفكير فى ثقافة المستقبل بالمجتمعات العربية، يقتضى الجمع بين مساريْن: تجذير طرح الإشكاليات فى سياق التحول التاريخى الثورى لإرساء دعائم نهضة لا تخطئ الطريق كسابقاتها، ثم الانفتاح المستمر على مستقبل ثقافة العالم لمحاورتها والتفاعل مع أسئلتها.