تتشابه الدولة البوليسية والنظم الديكتاتورية في العديد من النقاط، فلا يمكن للنظام الديكتاتوري أن يعيش دون نظام بوليسي سري وعلني، وفي معقل الديكتاتورية في العالم الآن وهو مصر، حيث يحكم مبارك منذ ثلاثين عاما، نجد أن نظرية الدولة البوليسية وصلت إلى حدود ونقاط أساسية لم تبلغها – في كمالها، دولة أخرى في التاريخ الحديث أو القديم. هنا في مصر العديد من الأجهزة الأمنية والتي مهمتها حماية النظام فقط لا غير، حتى وزارة الداخلية تحول رجالها من منفذي للقانون، إلى مجرد حراس لأماكن وشخصيات فقط لا غير، سبق لي أن ذهبت مرة إلى قسم الشرطة لتقديم بلاغ ما، فرفض مأمور الشرطة كتابة البلاغ لأنه تلقى اتصالا من أحد الضباط الكبار يأمره برفض أداء وظيفته، وبهذا تحول من ضابط يخدم القانون، إلى مجرد ضابط يخدم فرد من أفراد الدولة، وهذا على حساب فرد أخر أو أفراد كثيرين في الدولة. في مصر هناك عشرات الأجهزة الأمنية المختلفة، أذكر منها ما يستطيع الذاكرة استيعابه فقط، وهي أمن الدولة، الأمن المركزي، الأمن العام، وزارة الداخلية، المخابرات العامة المصرية وهي أيضا تبحث وتحقق في الشأن الداخلي، الحرس الجمهوري وهو أيضا حسب المشاهدات يتدخل في الأمن الداخلي، حتى وزارة العدل باتت جهاز أمني ببعض القضاة والكثير من وكلاء النيابة صاروا حراسا للنظام، وكل من يطلق سبة غاضبة أو اعتراض على النظام، يواجه بالتهم الملفقة، والاعتقال، وقانون الطوارئ. من مشاهدتي ومعايشتي للواقع المصري كمثال على أكبر دولة ديكتاتورية في التاريخ، تعيش في نظام بوليسي منذ عام 1952.. أقدم نقاط أساسية للدولة البوليسية. 1- الدولة المستهدفة. العدو لابد أن يكون على العديد من الجهات، أعداء من الداخل وأعداء من الخارج. فأعداء مصر من الخارج وتبعا للدولة البوليسية أكثر مما يمكن تصوره، هناك دائما وأبدا إسرائيل، التي تستهدف مصر، ومصر تغض الطرف عما تفعله في غزة وفي القدس، وتصدر لها الغاز الطبيعي وتستورد منها منتجات هامة جدا في مختلف الصناعات، بل أن صادرات الملابس المصرية الى أمريكا لا تدخل إلى السوق الأمريكي إلا وبها نسبة 30% تبعا لاتفاقية الكويز من المصنوعات الإسرائيلية.. فضلا عن معاهدة السلام الدامي! هناك استهداف من أمريكا، وهي التي بيديها حل وربط كل شيء ويذهب إليها مبارك صاغرا صغيرا خانعا راكعا، ويتلقى منها المعونة التي يشتري بها أسلحة توجه نحو الشعب! هناك إيران والتي لا أعرف سبب عداوتنا لها وهي التي تخطب ود المصريين في كل لحظة وفي كل مكان، يلعبون بورقة الدين أحيانا لتبرير العداوة فنحن سنة وهم شيعة، ويلعبون بلعبة الديمقراطية أحيانا فهم في نظام شمولي ونحن في نظام مبارك! ويلعبون بورقة شارع في ايران يحمل اسم قاتل أنور السادات "خالد الاسلامبولي". ويلعبون بلعبة عداوة إيران لأمريكا، والمفترض أن أمريكا عدوة في بعض الأحيان، ويلعبون بورقة مطامع إيران في العراق، وأمريكا نفسها تحتل العراق! في أفريقيا هناك الكثير من الأعداء مثل أثيوبيا، وأحيانا تكون العودة هي بلاد لم نسمع عنها من قبل نتيجة ظروف مياه النيل وغيره.. قناة الجزيرة الإخبارية عدو خارجي أيضا، وقطر أحيانا كلها تكرهنا، الكثير من الأعداء حتى تظن انه لو أغفلت لحظة أو سهوت سيتخطف الطير مصر! من أغرب الأعداء الذين استخدمتهم الدولة البوليسية في مصر، هم الفلسطينيون، وخصوصا في حصار غزة، شعب تحت الحصار يهرب من القصف الى الحدود المصرية ليجد الطعام أو المؤن، فترسمه الدولة على شكل شيطان جاء ليحتل مصر!! الغريب ان الناس صدقت، والآن يتم استخدام نفس الصورة للفلسطينيين عندما يقول مراسل التليفزيون المصري أحمد هندي أنه لاحظ تواجد فلسطيني كبير بين الثوار!! شعب محتل يكافح للخروج من أزمته وبناء دولته ومطحون على كل المستويات، تدعي الدولة البوليسية أنه من يحرك الثوار!! أما العدو الداخلي فهو دائما وأبدا الإخوان المسلمين، وكل تهمة في قاموس الشيطان يتم لصقهم بها، فهم ممولين من الخارج، محافظون لدرجة معاداة الحريات وحق الكلمة والتعبير، الفساد منتشر بينهم للغاية، وكلهم أصحاب نية سيئة، كأن الإخوان المسلمين ليسوا مصريين بالمرة! 2- نظرية الزعيم الأوحد. تستند الدولة الديكتاتورية على نظرية وهي أن هناك ظلا لله في الأرض وهو الحاكم، بل ربما يعادل الإله في قوته ومشيئته، نفس النظرية الفرعونية القديمة بأن الحاكم هو نصف إله، لذا ستجد أن رئيس الدولة المصرية، هو رئيس الحزب الوطني، هو الحاكم العسكري، وصاحب سلطات لا حد لها في الدستور المصري. كما ان النظرية تحتم على الجميع الإيمان بأن الزعيم لا بديل له، فلا يوجد من يعادله في المهارة والذكاء والفطنة، ولا يوجد من يعادله في الشجاعة والقوة، ولا يوجد من يعادله أيضا في الطيبة والإحساس بالناس. والزعيم أيضا ملهم، فهو يتلقي أفكاره من مصدر كوني فريد، فلا يجوز أن يجادله أو يحاوره أحد في قرار اتخذه، ولا يجب الخروج عن قراره حتى لو كان قرارا فاسدا.. وبسهولة يصبح هو الدولة نفسها، فمثلا كثيرا ما نسمع أن مصر هي مبارك، ومبارك هو مصر، وبالتأكيد سنجد للقائد الملهم ملايين اللافتات له في كل مكان وبكل الأوضاع الممكنة، فنظرية الزعيم الأوحد يستخدمها كل التابعين تحت رايته، وكل المنتفعين من وجوده، في انتخابات مجلس الشعب والشوري، وفي انتخابات النقابات والمجالس المحلية، بل ستجد رجلا يضع صورة الزعيم على دكانه أو مصنعه، لكي يأمن من شرور الضرائب والأمن وكل أجهزة الدولة المختلفة، فمن يمكن أن يعادي رجلا تحت راية الزعيم الأوحد؟ وهو يستند في وجوده دائما على نظرية أن الدولة مستهدفة، وسيعم البلاء العالم إذا خرج من منصبه، حتى أن الناس تتساءل عما سيحدث إذا مات؟ هل ستنهار الدولة؟ في مصر كان جمال عبد الناصر هو رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء في بعض الأوقات، وأنور السادات نفس الحال! حتى مبارك فعلها في بداية عهده.. ومن المواقف الطريفة في هذا الصدد، أن جامعا كاد أن يتهدم وأراد بعض الناس أن يرمموه، ولاشكالية ما، رفضت المحافظة إصدار قرار بالموافقة على الترميم، على الرغم من أن الترميم لن يكلف المحافظة شيئا، وكان المسجد اسمه مسجد "الرحمن"، فغيره أصحاب الحيلة الى اسم جامع مبارك، وهكذا وافقت المحافظة على إصدار الترخيص!! 3- القلة المندسة. فهي التبرير الجاهز دائما لكل من يعارض النظام العام للدولة، فيتم تقسيم الشعب نفسه إلى جماعات ذات عدد قليل مندس، فمثلا لو اعترض العمال على ضعف الأجور، فهم قلة مندسة، وإذا اعترض المثقفون على غياب الحريات، فهم قلة مندسة، وإذا أعترض الصحفيون على تعتيم الحقائق، فهم قلة مندسة، حتى لو اعترض الجمهور في إحدى المباريات على طريقة إدارة الحكم للمباراة، فهم قلة مندسة! الشعب الأن في الشوارع، والتليفزيون المصري يقول أن 8 مليون مواطن لا يعبرون عن الشعب، 8 مليون مواطن هم القلة المندسة! 4- التهويل من مشاريع الدولة. كل شيء في الدولة البوليسية والديكتاتورية هو نموذجي ومطور، عندما تمر على مركز شباب فقير للغاية لا يخرج عن مبنى بدور واحد مهدم ولا يحتوي على أي شباب على الإطلاق، بل مدير وعدد من الموظفين وحارس، ولا يمارسون أي عمل على الإطلاق، وتجد يافطة عريضة تقول " نادي شباب قرية كذا النموذجي المطور"، فلابد أن تعرف أنك في دولة ديكتاتورية من العيار الثقيل. ففي مصر مثلا، أصبح الحصول على بطولة أفريقيا لكرة القدم هو إنجاز وطني عريض، يتفاخر به المسئولون ورئيس الدولة والوزراء وحتى عامة الشعب، ناسيين الفقر والمرض والجهل وانعدام الحريات والتزوير وغيرها.. وعندما يتم افتتاح مشروع، تسمع عن قدراته الإنتاجية الهائلة وانه سيقود مصر نحو المنافسة العالمية، وعدد هائل من الوظائف وإدرار العملة الصعبة والتصدير للخارج، وكل هذا التهويل لمشروع عادي جدا بقدرات أقل بكثير مما يقوله المسئولون، ويتضح هذا بعد قليل من الوقت، ولكن لا أحد طبعا يتحدث عن الفشل وإلا ستصبح من نادي أعداء النجاح، فالفشل شيء عادي جدا يحدث في كل بقاع العالم حتى المتقدمة منها، أما الإنجازات في افتتاح مشروع أو مركز شباب، فهو فقط ما يستحق الثناء. 5- عصا الأمن الغليظة. لا تحتاج إلى شرح، الأمن يتدخل في الدولة الديكتاتورية في كل شيء، الصحافة والإعلام والفنون والمشروعات وخطط الإنتاج، كل شيء يجب أن تجد الأمن ليوجه أو يخطط أو يضرب بيد من حديد، في مصر مثلا لا يمكنك أن تنشئ دارا للنشر إلا بعد موافقة أمن الدولة، وبعد الموافقة لأمن الدولة الحق في مصادرة أي كتاب ينشر، أو اعتقال أي كاتب أو ناشر! 6- الحزب الواحد. الحزب الواحد هوا من يحكم تحت راية الزعيم الملهم، ويستمد وجوده من وجود الزعيم الملهم، فلو خرج الحزب من السلطة لسبب أو لآخر فلن يعود إبدا، ولهذا يزور في كل الانتخابات، لأنه يعلم أن شعبيته لا تتعدي على أفضل الأحوال 5%.. وعلى طريقة نظام الاحتكار، فهو يشوه ويضرب بل ويقتل أي سياسي معارض أو منافس. 7- ازدواجية التفكير. لابد أنك تلاحظ أن أكثر المتشدقين بالديمقراطية في البلاد الديكتاتورية، هم قمة النظام الشمولي نفسه، ففي خطب كل المسئولين في النظام بالكامل، لا يتركون خطبة إلا وتحدثوا عن الديمقراطية والحريات، بحيث تعني كلمة الديمقراطية العكس تماما وهي الشمولية، وتعنى كلمة الحرية العبودية نفسها. كما أنك معظم الكلمات يمكن أن تستخدم لوصف الشيء وضده في نفس الوقت، فمثلا يمكن للوزير أن يقول أن وزارته تعمل وفقا لأجندة محددة، ثم يقول أن الأعداء والمنافسين أيضا يعملون وفق أجندة محددة، فأجندة قد تعني خطة وطنية أو خطة خارجية خائنة. حتى على سبيل الأرقام، يقف الوزير ليعلن أنه افتتح مشروعا ينتج ألف زجاجة لبن يوميا، ويبتسم مسرورا بالإنجاز، ولكن في مقابلة تالية يقول أن المشروع ينتج ألف زجاجة يوميا، والطلب يتجاوز 5000 زجاجة يوميا! شيء أخر يتعلق بازدواجية التفكير، وهي أن الوزير في خطبة مثلا، قد يتمسك بالقيم والقوانين العلمانية التي يتحدث عنها العالم، إذا أفاده هذا الأمر، ثم تجده في موقف أخر يتمسك بتعاليم الدين ويدعي التقي وأنه لن يخالف أمرا للدين حتى لو تعارض مع أي قيم علمانية!