إذا كانت الأزمة المالية التى اجتاحت الرأسمالية وردود الفعل الحكومية عليها قد شككت فى مسار الليبرالية، فإن ما حدث فى تونس قد أكمل التشكك، وربما أطاح بكل الخطاب الذى كان هناك إصرار على تعميمه منذ انهيار النظم الاشتراكية، والقائم على ثنائية اللبرلة والدمقرطة. فرضت الأزمة المالية على الحكومات الرأسمالية الاسراع من اجل دعم البنوك التى كانت تشرف على الانهيار بتريليونات الدولارات واكملت فى بعض البلدان الاوروبية وبفرض سياسة تقشفية شديدة الضبط من اجل تقليص العجز فى الميزانية، وتعويض ما دفعته الدولة لتلك الاحزاب، وكان كل ذلك يشكك فى صدقية القول بحرية السوق، وتراجع دور الدولة فى المجال الاقتصادى والاجتماعى وترك السوق تصحح ذاتها بذاتها، حيث ظهر فجأة بأنه لايمكن الاستغناء عن الدولة فى ضبط السوق وانها الحامى فى النهاية للرأسمال وهو يمارس مغامراته البهلوانية من أجل ربح أعلى ولقد ظهر فى كل ما جرى خلال سنتين بأن الدولة هى إلى جانب الرأسمال ومنقذه عن عثراته حين يغرق. والآن يأتى الحدث التونسى - المصرى لكى يطرح مسألتين هما فى صلب الخطاب الليبرالى الذى راج لعقدين من الزمن ومازال يشهد النزع الأخير، وسيكون هذا الحدث هو الذى يسدل الستار عليه، المسألة الاولى تتمثل فى أن تونس كانت تصنف من قبل صندوق النقد الدولى والبنك الدولى كمعجزة اقتصادية فى ظل اقتصادها الليبرالى لكن تبين أن هذه المعجزة قامت على تهميش قطاع واسع من القوى العاملة وعلى اقفار شامل وان ما تكون هو اقتصاد ريعى يعتمد على السياحة بالاساس وعلى بعض الصناعات الوهمية التى هى عبارة عن تجميع لقطع سلعية وأن كل ذلك يخضع لسيطرة طبقة طابعها مافياوى هى التى تحكم فى صيغة بوليسية. وبالتالى ليظهر بأن الليبرالية لا تفضى سوى الى التهميش والاقفار وتشكيل اقتصاد ريعى، هذا الوضع هو الذى فرض انفجار كل الطبقات الشعبية فى انتفاضة شاملة. المسألة الثانية تتمثل فى ان ما يحرك الشارع هو المطالب الاقتصادية وليس أى شىء آخر ورغم ان الشعب طالب بالحرية والديمقراطية وان الشارع قادر بالتالى على أن يسقط الديكتاتوريات رغم انه ليس مؤكدا انه قادر على بناء الديمقراطية نتيجة غياب القوى المرتبطة به والتى بوجودها يمكن تأسيس نظام ديمقراطى حقيقى. ان النزعة الليبرالية ارتبطت بالشك فى قدرة الشعب والتشكيك فى امكانية ان يقوم بثورة وبالتالى المراهنة على قوى خارجية او سلطوية من اجل تحقيق الانتقال الديمقراطى ولهذا ظلت طافية مع الموجة العالمية التى انتشرت منذ عقدين وهى الموجة التى جرى تعميمها تحت مسمى العولمة. وربما سوف يتمسك الليبراليون الآن بالانفراج الذى قامت به السلطة القديمة/الجديدة فى تونس واطلاق الحريات والتحضير للانتخابات التى ستكرر كل التجارب التى شهدناها خلال العقود الماضية لأنها سوف تؤسس لديمقراطية صورية تعيد انتاج السلطة الطبقية ذاتها وتعطى متنفسا لسنوات معدودة قبل ان يعاد انتاج الطابع البوليسى للسلطة فهذا الطابع هو لصيق بهيمنة الطبقة الليبرالية والمافياوية لكن سوف يكون الوضع الآن اعقد لأن المشكلة التى فرضت هذه الانتفاضة تتمثل فى: الوضع الاقتصادى، البطالة، الاقفار الشديد، والتهميش. وهذا الشكل الجديد لن يستطيع تقديم حل لهذه الازمات، لأن الطبقة المسيطرة هى من ينتجها ومادامت لم تتغير فإن امكانية تحسين الوضع الاقتصادى سيكون مستحيلا خصوصا وان البلدان الرأسمالية التى كان يمكن ان تقدم المساعدة (فرنسا وأمريكا) هى ذاتها فى ازمة اقتصادية عميقة. بمعنى ان الهامش الديمقراطى مهما كان متسعا لن يوقف الاحتجاجات او يرجع الشعب الى البيت، فالأزمة التى دفعت الشعب الى كل هذه الثورة هى الازمة الاقتصادية التى وضع فيها نتيجة نهب الاقتصاد وافقار الطبقات الشعبية من خلال ربط هذا الاقتصاد بالعولمة اى بالطغم المالية المهيمنة فى الاقتصاد العالمى. وهنا سيكون الخطاب الديمقراطى فى مأزق، لأن الديمقراطية لن تحل مشكلات الشارع، وهو الامر الذى سوف يقود إما إلى الدكتاتورية العسكرية من جديد أو إلى تصاعد الانتفاضة وانتصار البديل الشعبى الذى يتجاوز الليبرالية ذاتها. إذن، الليبرالية أتت بالنهب والفساد والإفقار الشديد والبطالة العالية، وأن التغيير يتحقق من خلال الانتفاضة الشعبية، هذه بديهية أولى. ثم إن المسألة لا تتعلق بإقامة نظام ديمقراطى فقط بل إن تجاوز البنية الاقتصادية الرأسمالية التى تصاغ فى ترابط تبعى بالطغم الرأسمالية، هو الذى يسمح بحل مشكلات الطبقات الشعبية، ومن ثم يمكنه أن يؤسس لديمقراطية حقيقية، وهذه هى بديهية ثانية. وفى كل الأحوال سأقول بأن الخطاب الليبرالى قد اندثر، وأن الديمقراطية باتت تربط بخيار طبقى بديل عن الرأسمالية.