فى أعقاب قرار لجنة المتابعة العربية فى اجتماعها الأخير وقرارها بألا تعود السلطة الفلسطينية إلى «المفاوضات» مع «إسرائيل»، ومن ثم قرار السلطة القيام بحملة «دبلوماسية» بهدف تأمين اعتراف دولى بدولة فلسطين ضمن حدود يونيو حزيران 1967 صار لزاما الاعتراف بفشل «مسيرات السلام» التى استولدتها اتفاقيات أوسلو وما تبعها من محادثات برعاية أمريكية فقط، كون «إسرائيل» كانت ولاتزال تصّر على أنها لن تقبل بأية مشاركة دولية كونها (أى الولاياتالمتحدة)، كما أكد الرئيس الراحل أنور السادات، تملك تسعا وتسعين بالمائة من الأوراق. كانت هذه القناعة الراسخة عند الرئيس السادات هى التى بدورها أنتجت معاهدة الصلح مع «إسرائيل» عام 1979 التى بدورها أيضا أنتجت عبثية «مفاوضات أوسلو»، حيث كان سحب إدارة أوباما مطالبة «إسرائيل» بتجميد لمدة ثلاثة أشهر للمستوطنات مقابل 20 طائرة «اف 35» وتعهد اللجوء إلى حق النقض فى مجلس الأمن ضد أى مطلب عربى أو فلسطينى للاعتراف بدولة فلسطين ضمن حدود 67 وعاصمتها «القدسالشرقية». لذا، وقبل الإبحار فى «الحملة الدبلوماسية» التى تنوى السلطة الفلسطينية القيام بها فى الأسابيع والأشهر القادمة لا مفر من معالجة نقدية للمنهج الذى اتبعته السلطة أو هل هى «منظمة التحرير»، والتى أوقعها فى المصيدة التى كادت أن تؤدى إلى إجهاض القضية الفلسطينية وتحويلها إلى مسلسل من المشكلات المتصاعدة وتحريفها عن المستلزمات الأساسية لأى حركة تحرير وطنى ما أفقد منظمة التحرير الفلسطينية كونها إطارا للشعب الفلسطينى بكل شرائحه وبالتالى مرجعية نضاله ومقاومته. إزاء هذه الخلفية التى دفعت بالمنظمة باتجاه قناعة مستجدة لديها بأن حصر التعامل عمليا مع الإدارات الأمريكية المتتابعة هى الوسيلة الأنجع إن لم تكن الوحيدة لانتزاع أية حقوق كانت «إسرائيل» تعتبرها «تنازلات» وأحيانا «أليمة»، إضافة إلى أن ما آلت إليه سياسات التطبيع من إضعاف لقدرات الردع فى مواجهة تمادى «إسرائيل» فى تصعيد الاستباحة للحقوق الوطنية والإنسانية للشعب الفلسطينى، كما ضمها لهضبة الجولان واعتداءاتها المتكررة على لبنان وغيرها من الاختراقات ومحاولات التحريض على دول صديقة ومتعاونة مع العديد من أقطار الوطن العربى. فيما تقدم لا مفر بادئ ذى بدء من التعرف إلى دلالات المعنى فى المصطلحات التى تعامل معها الفريق الذى كان مكلفا بالمحادثات وتأمين استضافتها حتى لا تكرر الحملة المنوى القيام بها الوقوع فى المغالطات والتشويهات التى استعملت أثناء المحادثات العبثية التى أعطت آمالا مغلوطة وأجازت ل«إسرائيل» أن تبقى منفلتة من المساءلة ناهيك عن المعاقبة. ذا سوف أعطى بعض الأمثلة لمفردات ومصطلحات جعلت معظم المحادثات خاصة منذ اتفاق أوسلو لغاية الآن مجرد تمرينات فى العبث إذ تآكلت فى هذه الأثناء المزيد من الأرض الفلسطينية وسقط الآلاف من الضحايا والشهداء، كون الشطط فى استعمال المفردات جعلها عرضة لفقدان الخطاب الفلسطينى استقامته ويتلعثم فى خطابه تجاه الشعب الفلسطينى والعربى من جهة والعالمى من جهة أخرى. ويكفى التذكير بمصطلحات تم تداولها وأوجدت آمالا مغلوطة فتاهت البوصلة وساد القلق والإحباط، ولعل كما أكدنا مرارا أن استعمال «مفاوضات» كان خطأ فادحا فى توصيف محادثات كانت بدورها عبثية كما اكتشفت الإدارة الأمريكية الحالية، فالإمعان باستعمال «المفاوضات» بدلا من المحادثات جعلها مجرد سبر غور لاكتشاف حقوق بدل من أن تكون عملية تفاوض ناتجة عن اتفاق مسبق على نتيجة، بمعنى مثلا أن التفاوض كان مستندا إلى إنجاز الحل الذى انطوت عليه قرارات قمة بيروت التى أعيد تكرارها فى جميع القمم اللاحقة. إذا أين الخلل؟ إنه يكمن بأن «إسرائيل» اعتبرته إحدى الوثائق المرجعية لا كما أرادتها القمم العربية المتتالية كحل نهائى، أى «الانسحاب الكامل مقابل المصالحة». لكن حتى هذا الحل المبتور أصلا لم يكن ليحصل، لأن التباسا آخر ساد «المفاوضات»، بحيث إن «إسرائيل» لم تعترض مطلقا أنها سلطة احتلال خاضعة لتنفيذ بنود اتفاقيات جنيف الرابعة، بمعنى آخر، الاحتلال هو مؤقت ولو دام طويلا وهو يفترض عدم تغييره للتركيبة السكانية ولا لمعالم الأراضى التى تحتلها دولة الاحتلال، أى«إسرائيل»، لهذا عندما تغاضت السلطة الفلسطينية عن ضرورة انتزاع إقرار من «إسرائيل» بأنها دولة محتلة، ما كان منها إلا التصرف وكأنها سلطة فاتحة مغتصبة، وبالتالى تستعمل كل وسائل الاغتصاب لتؤكد رسوخ حقها فى الملكية. لذا، لأن الفريق الفلسطينى «المفاوض» لم يؤكد استقامة معادلة التفاوض، فقد تحولت مسيرة «المفاوضات» إلى الحالة الراهنة، التى تجد القضية الفلسطينية نفسها فيها. استتبع انعدام استقامة المعادلة المنوط بها إيجاد الحل المعلن أن «إسرائيل» اعتبرت أن أية مقاومة أكانت سلمية أو مسلحة بمثابة تمرد انفصالى عن «إسرائيل» القادمة، إلا أن «إسرائيل» تصرفت على هذا الأساس من دون الإعلان إلا فى السنوات الأخيرة عن نواياها، كون وزير خارجيتها أفيجدور ليبرمان كان يعلن بوضوح ما يفكر به ويخطط نتنياهو. هذا فيما يتعلق بالضفة الغربيةوالقدسالشرقية، أما بخصوص قطاع غزة فقد تعاملت معه «ككيان عدائى» ما يجيز الاعتداء عليه بارتكاب جرائم حرب، كما حصل فى أواخر 2008. وفى هذا الصدد تسوّق «إسرائيل» أنها انسحبت من غزة، فى حين أن كل ما حصل هو إعادة تموضع وليس انسحابا، فالانسحاب من أرض محتلة يعنى استرجاع السيادة، بينما إعادة التموضع تجيز ل«إسرائيل» العودة متى تشاء، كما يدل عليه الحصار وما قامت به فى غزواتها المتقطعة وجرائم حروبها على هذا «الكيان العدائى». بعد التجاهل الذى ميز المحادثات المسماة خطأ بالمفاوضات منذ اتفاقية أوسلو وحتى الآن، وبعد قرار محكمة العدل الدولية بشأن الجدار العنصرى، وبعد تهديد الولاياتالمتحدة باستعمال حق الفيتو فى حال الدعوة للاعتراف بدولة فلسطين وعاصمتها القدسالشرقية، إضافة إلى الافتراق القائم بين حكومتى رام اللهوغزة، فإن واقع الحال يستدعى المزيد من الحيطة ودراسة الخيارات بشكل دقيق وصارم وذلك بعد إتمام مصالحة قابلة للتصديق بين جميع الفصائل، ومن ثم تأمين مشاركة عناصر المجتمع المدنى الفلسطينى وممثلى اللاجئين ومؤسسات بحثية ودراسية وكبار المفكرين وذلك من أجل وضع إستراتيجية مدروسة لتوفير فرص أكثر للنجاح فى كل خطوة يأخذها الإجماع الفلسطينى تكون على شكل استراتيجية مجابهة، لا أن يبقى الوضع الفلسطينى يرتجل اقتراحات وحملات «دبلوماسية» أو غيرها. لقد عانى الشعب الفلسطينى العربى بما فيه الكفاية، ولعل ما حصل فى الأيام الأخيرة يوفر فرصة الوحدة باتجاه تحقيق مرجعية موثوقة توجه النضال وسط تعقيدات متزايدة. وكل ذلك يتطلب سرعة المبادرة واجتناب التسرع.