أزعم أن معظم أعضاء أمانة السياسات يعتقدون أنهم يديرون مزرعة أو شركة تهدف إلى الربح، فكان التركيز الأكبر على البنية التحتية والجوانب الاقتصادية والمالية، ولكنهم أغفلوا أن هذه المجالات المهمة ليست منزوعة عن السياق العام لمشاكل لا تقل خطورة ترتبط بالهوية الوطنية والآداب العامة والتطور السياسى فى مصر. ولنرجع لأصل الموضوع. يعتقد الكثير من دارسى العلوم السياسية أن هناك مراحل تمر بها المجتمعات، وقد تكون بعض هذه المراحل متداخلة لدرجة التزامن، لكنها فى النهاية تحديات على المجتمعات أن تواجهها. وأقل المجتمعات نصيبا من فرص النجاح فى تحقيق التطور السياسى هى تلك التى تواجه هذه التحديات مجتمعة. ويبدو أن الحزب الوطنى يقود مصر فى هذا الاتجاه. ويذهب بعض دارسى التطور السياسى إلى أن أى مجتمع يتقدم ديمقراطيا يمر عبر مراحل أربع: الأولى هى مرحلة تحقيق الوحدة الوطنية من خلال بناء مجتمع متماسك يرغب أفراده فى أن يعيشوا سويا. وقد ظل مجتمعنا المصرى لفترة طويلة لا يواجه هذه المشكلة لأن الهوية الوطنية المصرية لم تكن موضع تساؤل وما كان على المحك هو علاقة هذه الهوية الوطنية بمحيطها الأكبر سواء العربى أو الإسلامى. لكن لم يكن فى تاريخنا المعاصر تهديدات حقيقية لهذه الهوية إلا مع العنف المسلح لجماعة الجهاد والجماعة الإسلامية والتى تراجعت مؤخرا عن الكثير من معتقداتها أو انصرفت لقضايا أخرى. لكن هناك تطورات سلبية لا يمكن أن يخطئها حريص على مصلحة الوطن بشأن علاقة المسلمين بالمسيحيين فى مصر. والملاحظ أن الاحتكاكات الطائفية أصبحت معتادة والتصعيد الخطابى مقلق، وكان آخره ما ورد على لسان البابا شنودة فى عظته الأخيرة بشأن أحداث العمرانية من قوله: «سنطالب بدم الذين قتلوا»، مضيفا «سنرفع دعاوى قضائية مثل الآخرين»، متسائلا «هل من مات من عندنا دمه رخيص؟ لا، دمهم ليس رخيصا». وهو كلام ليس منعزلا عن مؤشرات مجتمعية كثيرة أصبحت تشير إلى تراجع فى روح المواطنة المصرية. كنت أظن أن هذا التحدى الأولى والأساسى، تحدى الهوية الوطنية، وراءنا وأننا انتقلنا إلى المرحلة الثانية التى تهتم بالنقاش بشأن إدارة شئون الدولة. ففى هذه المرحلة الثانية يكون النقاش وربما صراع مصالح، ليس على أساس الهوية: أى أتباع دين فى مواجهة أتباع دين أو أتباع لغة وعرق فى مواجهة أتباع لغة وعرق داخل المجتمع الواحد، وإنما هو صراع مصالح بين فئات أو شرائح طبقية ذات مصالح اقتصادية وسياسية وتحيزات أيديولوجية مشتركة فى مواجهة نظرائهم بشرط أن يكون فى كل شريحة بعض من أتباع كل دين أو عرق مختلفة، فلا يكون كل المسلمين فى مواجهة كل المسيحيين أو العكس. فمثلا حين كان هناك صراع فى أوروبا بين أمراء الإقطاع المتحالفين مع الكنيسة الكاثوليكية فى مواجهة الطبقة الوسطى من الصناع والتجار بدءا من القرن الثامن عشر، لم يكن هذا الصراع دينيا، لأن الصراع الدينى قد تم حسمه قبل ذلك بنحو قرن من الزمان فى نهاية ما عرف باسم الحروب الدينية ومعاهدة وستفاليا فى 1648 والتى قررت علمنة السياسة كعلاج لمواجهة مرضين خطيرين: الحروب الدينية والاستبداد الكنسى. المقلق فى أحوالنا السياسية أننا نشاهد تصاعدا فى الصراعات المصلحية الفئوية والطبقية (اعتصامات وإضرابات ودعوات للعصيان المدنى) فضلا عن تصاعد فى مؤشرات صراعات الهوية الدينية. الصراع ليس فى ذاته خطرا، ولكن الخطر أن يكون الصراع على الهوية (بما يفضى لعنف ممتد أو حرب أهلية فى حالات أخرى) أو أن يكون غير منضبط مؤسسيا بحيث لا يحترم معظم الأفراد أيا من مؤسسات الحكم القائمة لأنهم ينظر إليها باعتبارها مؤسسات تسيطر عليها فئة أو طبقة فى مواجهة الآخرين. أو كما يقول الماركسيون تتحول مؤسسات الدولة إلى هيئة أركان للدفاع عن مصالح الطبقة المسيطرة اقتصاديا. وهو شعور يتزايد مع الأسف فى ظل سياسات أمانة السياسات والنخبة الحاكمة. المأزق الذى نعيشه فى ظل إدارة «الوطنى» للوطن أنه يدمر ثقة الناس فى مؤسسات الدولة تباعا. الأحزاب ليست موضع ثقة المواطنين لعدم السماح بالتواصل المباشر مع مؤيديها المحتملين لا سيما من الطلاب والعمال، والمؤسسات البيروقراطية أصبحت كيانات معروفة لدى المواطنين بأنها ساحة هشة يسيطر عليها الفساد والمحسوبية والرشوة، ومؤسسات التمثيل السياسى «المنتخبة» (أى مجالس المحليات والشورى والشعب) أصبحت مؤسسات بيروقراطية ومثار سخرية من قبل المواطنين، ويمتد التدمير إلى مؤسسة القضاء التى تخرج منها مئات الأحكام القضائية ويتم تجاهلها وكأنها غير موجودة. إذا أعدنا رسم المشهد السياسى المصرى الآن نجد أن «الوطنى» يصعد من تحديات الهوية ويضيف إليها تحديات الصراعات غير المنضبطة مؤسسيا. وينزع الأشخاص لأن يتخذوا من القرارات أو يأتوا من السلوكيات ما يتفق مع مصالحهم ونزواتهم دونما اعتبار لأى بنية مؤسسية أو قانونية تحكم البلاد، وكأننا نرتد إلى عصر ما قبل الدولة. يفترض نظريا بعد أن يجيب المواطنون عن سؤال الهوية الوطنية وأن تكون صراعاتهم ونقاشاتهم غير دينية أو عرقية وإنما هى صراعات ونقاشات بشأن قواعد إدارة الدولة، نصل إلى المرحلة الثالثة أى مرحلة التحول الديمقراطى وهى مرحلة تصميم البنية المؤسسة لحكم القانون الذى يضمن تمثيل مواطنيه والتنافس بين قواه السياسية من أجل الوصول إلى الحكم عبر انتخابات حرة ونزيهة مع ضمانات أساسية لاحترام حقوق المواطنين العامة والسياسية. ويكون الدستور هو الساحة الأهم للتوصل إلى تسويات وتبنى قواعد ديمقراطية تمنح الجميع حق المشاركة فى المجتمع السياسى. وهو ما نحن بعيدون عنه قطعا لأن الحزب الوطنى وضع صفة الديمقراطية فى اسمه ولكنه يدير الدولة وكأنه فرع للاتحاد الاشتراكى أو لحزب البعث العربى. المعضلة أن الوطن فى ظل حكم «الوطنى» تراجع عن الدخول إلى هذه المرحلة الثالثة بل الأسوأ أنه يرتد بنا إلى المرحلة الأولى. لذا فإن الكلام عن المرحلة الرابعة الخاصة بترسيخ الديمقراطية شعبيا بحيث تكون منطق حياة فى المدرسة والمصنع ومؤسسات المجتمع المدنى هو نوع من الرفاهية التى نحن بعيدون عنها تماما. الخلاصة أن هناك تراجعا شديدا فى رأس المال السياسى للحزب الوطنى، وكى يضمن بقاءه فى السلطة هو يمنع جميع الفاعلين الآخرين من إحداث تراكم رأسمال سياسى بما يعنى أننا سنأتى ليوم سنكون فيها أمام أحد بديلين: إما استمرار الوضع الراهن (وهو ما يبدو مستحيلا) أو الفوضى الشاملة إن لم يع «الوطنى» عواقب ما يفعله بالوطن.