يتوهم الكثيرون أنه كما أن الألمان أساتذة فى صنع أنواع من السيارات الفاخرة، والإيطاليين فى فنون بعض الأطعمة، والإسبان فى مصارعة الثيران، فإن المصريين أساتذة فى فنون تزوير الانتخابات، وأنا أدعى العكس تماما، ولنبدأ الحكاية من المنبع. التزوير فرع من أصل عام هو الكذب، والكذب فن عريق له أصول وقواعد، وهناك خطأ شائع مؤداه أن كل إنسان يستطيع ممارسة الكذب بالمعنى الفنى للكلمة، والكذب باعتباره كل قول يخالف الحقيقة ميسورًا للجميع، ولكن المعضلة تكمن فى القابلية للتصديق لأن هناك من الأقوال ما يقع فى باب الخيال فلا ينطلى على أحد ولا يحمل على محمل الجد ولهذا فالأفضل من وجهة نظرى قصر الكذب بالمعنى الفنى الذى يليق بعتاة الكذابين والمنافقين واللصوص على كل قول يخالف الحقيقة ويقبل التصديق. ومن باب الإيضاح أضرب مثلا عاينته بنفسى، حيث كنت رئيسا للجنة العامة لأحد المراكز فى استفتاء جرى على حل مجلس الشعب فى أواسط الثمانينيات، وكنت وحدى مشرفا على ما يجاوز الطاقة من الإشراف على دائرة واسعة، ورحت أمر على مراكز الاقتراع موقنا استحالة الرقابة، وفى الليل رحنا نحصى الأصوات، وكانت النتيجة نحو مائة فى المائة من الموافقين على الحل، ورحت أبدى دهشتى وقلت إن الأمر مهين لمجلس الشعب نفسه لأن معناه أنه مكروه تماما، ورد المأمور قائلا هذه إرادة الناس! قالها فى يقين!، ولم يكن أمامى إلا اعتماد النتيجة، وكانت لا تقدم ولا تؤخر بل لا يعدو الأمر استيفاء شكل لا أكثر، وبينما كنت ماأزال واقعا تحت تأثير الدهشة همس ضابط فى أذن المأمور بأن مدير الأمن على الهاتف فاستأذن للمكالمة، وبعد دقائق عاد الرجل وعلى وجهه آثار المكالمة، كان وجهه محمرا فى غضب وتبرم، وما إن جلس حتى قال لى يبدو أنك محق تماما فيما قلت! فرددت مندهشا عن سرعة تغيير رأيه فقال لى إن (الباشا) المدير قد صرخ فيه قائلا إنها فضيحة بجلاجل وأنه تقريبا أورد نفس أسانيدى!، وأضاف المأمور أن (الباشا) تمنى لو كانت النتيجة معقولة أى فى حدود سبعين بالمائة! قلت له ليس أمامنا إلا احترام إرادة الناس واعتماد النتيجة كما هى واعتمدتها بالفعل وانصرفت. لم يكن مدير الأمن قطعا غاضبا على مبدأ التزوير، ولكنه غضب لعدم معقولية المدى الذى ذهب اليه المزورون. وما أقوله عن التزوير المفضوح يجد صداه فى القانون الجنائى الذى يعتبر التزوير المفضوح نوعا من البلاهة، وينظر اليه باحتقار فلا يرقى بمرتكبه إلى درجة المجرم بل يصمه بالبله! الكذاب الحقيقى إذن أو لنقل الكذاب العريق فى فن الكذب هو من يقول قولا يخالف الحقيقة ويقبل التصديق، أما من عداه فإن الناس لا يبخلون عليه بأوصاف يعف لسانى عن ذكر أكثرها ولعل من أخفها وصف المعتوه! وبالمعنى متقدم الذكر، فإننى حتى على المستوى الإنسانى، لا أفهم كيف يقبل الذوق فكره مساحيق الوجه المتنافرة بعداوة مع لون البشرة الأصلى، فنجاح المساحيق يجب أن يقاس بقدر ما تحدثه من (قابلية للتصديق). وفى حياتنا ضروب من التزوير الخائب المفضوح الذى يشى بقلة حيلة المزورين وخيبة أملهم، والأمثلة لا تحصى. فى نهاية عهد السادات أجريت استفتاءات ببنود عجيبة مضطربة، على طريقة بعض الباعة عند ندرة بعض السلع إذ تطلب سكرا فيفرض معه الخل، وإلا امتنع عن البيع، ففى استفتاء عام 1977 طرحت جرائم وعقوبات بالغة الشناعة تصل للأشغال الشاقة المؤبدة وجرمت بموجبها الحقوق الطبيعية كالإضراب والاحتجاجات، وفى مارس سنة 1980 أجرى استفتاء تضمن اعتبار الشريعة الإسلامية المصدر الأساسى للتشريع مع فتح باب البقاء الأبدى للسادات على مقعد الرئاسة لولا أن ملك الموت ضيع عليه نتيجة الاستفتاء!، والعجيب أن نسبة الموافقة جاءت نحو تسع وتسعين بالمائة، وكان من أغرب ما شاهدت فى حياتى منظر وزير الداخلية المصرى وهو يتقدم إلى السادات معلنا نتيجة أحد الاستفتاءات وراح يمهد بأن الجديد هذه المرة هو توجه الفلاحين من الحقول والعمال من المصانع إلى لجان الاستفتاء للإدلاء بأصواتهم وكانت النتيجة هى تقريبا مائة بالمائة! وكانت عينا الوزير زائغتين لجهد جهيد يبذله ليبدو واثقا من صدق ما يقول لأنه كما أن الصب تفضحه عيونه كما يقول الشاعر فإن المزور أيضا تفضحه عيونه ويداه المرتعشتان! فى كل مرة يجرى استفتاء أو انتخاب أقول أشفق على القائمين على التزوير لقلة الخبرة فى فنون الخداع، وأرى وجوها يفترض أنها لأناس يملكون الحد الأدنى من العقل، وبعضهم منظر سابق أو صاحب مؤلفات لا يؤمن بحرف منها عند لحظة الاختبار، وقد ضبط ذات يوم أستاذ شهير للقانون الدستورى بنى شهرته فى الكتابة عن الدساتير والحقوق الدستورية، تم ضبطه وهو يزور بنفسه فى انتخابات رشح فيها بمسقط رأسه! ثم ماذا كان يضير السادات لو أن نسبة الموافقين على الاستفتاء كانت سبعين أو حتى ستين أو واحدا وخمسين بالمائة؟ ألا يجمع حسنييه معا وهما تمرير ما يراد له أن يمرر ومعه إمكان التصديق بدلا من تحول الأمر إلى طرفة داخلية وعارا دوليا؟ قبل انتخابات مجلس الشعب الأخيرة دعوت كما دعا غيرى إلى مقاطعتها وقلت إنها بغير ضمانات، وأعترف بوقوف خيالى عاجزا عن تصور مسبق لما جرى، كنت أتخيل أن المساحيق توجب مسحة إتقان بما يفرض نجاح ثلاثين بالمائة مثلا من المعارضين من باب التجمل أمام من يعنيهم الأمر فى الخارج، ثم إن هؤلاء محاصرون لا يملكون حلا ولا عقدا بل يحضرون المناقشات ثم يصرخ بعضهم وربما أصيب بنوبة قلبية ثم ينسحب البعض يائسا وفى النهاية سوف يمرر ما يطلب تمريره بكرم وسخاء منقطع النظير فى برلمانات العالم! ولكن ما جرى هو فى أحد جوانبه مزحة سخيفة لاستعصائه على التصديق، ففى العالم كله أحزاب ونسب الفوز تتراوح بين أربعين وخمسين وستين فى المائة على أفضل حال وتشكل حكومات ائتلافية فى حالات كثيرة لعدم حصول أى حزب على أغلبية تتيح له وحده تشكيل الحكومة، فهل فى الكرة الأرضية أو على سطح المريخ من يصدق أن الحزب الوطنى يكتسح كل الدوائر هكذا؟ أليس أغرب وأعجب من مقولة الشبكة بقيمة فدان أن يفوز حزب بنسبة لم يحظ بها نبى؟ إن من يؤمنون بالسيد المسيح عليه السلام دون خمس أهل الأرض ومثلهم مسلمون، بل إن من يعبدون الله على الأرض هم أقل من نصف خلق الله! فأى عقل وأى عاقل يستوعب نجاح الحزب الوطنى كل هذا النجاح؟ إن ديمقراطيات العالم تفترض أخذ الرأى الآخر بعين الاعتبار، وكان الكل قد سلم يأسا بديمقراطية مصرية (خاصة) تقف عند حد سماع صراخ الآخرين دون التفات لما يقولون، ولكن حتى هذه عزت علينا وصارت بعيدة المنال. إننا بحاجة إلى وقفة حقيقية مع النفس، لنفكر بالفعل لا فى انتخابات حقيقية ولكن فى تزوير معقول قابل للتصديق وبالإمكان إيفاد بعثات لدول عريقة فى فنونه وليس هناك ما يمنع من حضور خبراء للإشراف والتدريب حتى نكتسب خبرة تمكننا من التزوير المقنع ، وأختم حزينا إننى أشعر كمصرى عاشق لتراب بلدى الحبيب الرائع بالعار مرتين، مرة لوقوع التزوير ومرة لأنه وقع بشكل خائب لا يقبل التصديق جعلنا أضحوكة أهل الأرض والمريخ وزحل معا، إننا لا نطلب رد التزوير ولكننا نطلب اللطف فيه!. يمكنكم متابعة مزيد من التغطيات من خلال مرصد الشروق لانتخابات برلمان 2010 عبر: مرصد الشروق عبر فيس بوك مرصد الشروق عبر تويتر