لم يكن ارتحال طارق إلى المدينة الصاخبة مجرد رحلة لطلب العلم. كان ذلك يعنى خمس سنوات من الاستقلال والاعتماد على الذات وغربة يسميها هو رحلة أولى خارج الأردن. قبل أن يعرج طارق إلى القاهرة كان لديه التصور التقليدى السياحى عن القاهرة: الأهرامات ونهر النيل، ومبنى الإذاعة والتليفزيون، وبرج القاهرة، وأبو الهول ورمسيس، وأم كلثوم، وجو ربيعى رطب طوال العام. فقط عندما خطت قدماه أرض المطار وقادته إلى أول تاكسى أشار إليه عرف أن هناك ما هو أكثر من ذلك. «كنت شديد التحمس قبل السفر. وكنت أقول لنفسى أخيرا سأكون مستقلا ومسئولا، لكن مجرد وصولى إلى المطار شعرت بوخز أسفل بطنى: أنا بعيد عن الأردن»، هكذا يروى طارق (19 سنة) من مقهى بالحى المتميز بالسادس من أكتوبر أحد أشهر أماكن تجمع الطلبة العرب بالمدينة التى تحتوى وحدها ستة جامعات خاصة. يروى لحظاته الأولى فى البلد الذى ظن أنه يعرف عنه الكثير من خلال مشاهدته للأفلام والمسلسلات وسماع الأغانى المصرية: «عرفت مصر من محل (دى فى دى) صغير كنت أعمل به خلال دراستى الثانوية، كنت مدمنا للأفلام المصرية، وكدت أتقن اللهجة العامية، لذلك عندما حان موعد دخولى الجامعة أول شىء خطر ببال أهلى هو مصر». لم يكن مجموع طارق يكفى لدخوله إحدى جامعات الأردن، كما أن جامعات مصر معترف بها دوليا وبها التخصص الذى ينوى أن يتم مشواره المهنى به: هندسة الاتصالات، «فرص عمل كثيرة ومستقبل مريح»، على حد قوله. أراد أن يدرس بكندا، هو ابن العائلة الميسورة بالأردن، فأبوه يعمل مهندسا معماريا وأمه تعمل ربة بيت، لكن العائلة لم تكن لترضى لابنها الأصغر الذى لم يخط حدود الأردن من قبل أن يبعد أكثر من ذلك. «بدأنا بالاتفاق مع أحد مكاتب التنسيق بالأردن، وهو ما اكتشفنا أنه أسوأ شىء يمكن فعله، لأنه اتضح لنا فيما بعد أنهم ينسقون مع الجامعات الخاصة سيئة السمعة بحيث يوردون لهم الزبائن فى مقابل أخذ حصة من الجامعة على كل رأس! أوهمونا بجامعة بعينها، وبالفعل تم ترتيب الأوراق وتحديد موعد السفر»، ولكن لحسن حظ طارق فإن صديقا لأخيه يدرس بالقاهرة قبل ثلاث سنوات التقى به بالمطار وقال له: «أول شىء تفعله هو أن تسترد ورقك من هذه الجامعة وتنتقل إلى أخرى إذا أردت أن تتعلم»، وقد كان. بسبب رواج التعليم بالخارج فى معظم البلدان العربية فقد راجت معها عدد مكاتب تقوم باستقطاب الطلبة لمساعدتهم بتسجيلهم داخل الجامعات المصرية، ونتيجة لعدد من المخالفات التى تتم بواسطة هذه المكاتب فقد قررت عدة دول من بينها الكويت بمحاولة تقييد ومحاصرة هذه المكاتب. وأعلنت الكويت العام الماضى أن مصر لن تقبل طالبا لديها إلا بعد موافقة المكتب الثقافى الكويتى فى القاهرة، فيتم التقدم بالأوراق المطلوبة للجامعات الخاصة مباشرة والتى بدورها تقوم بمراجعتها لمطابقتها شروط القبول ثم تراجع وزارة التعليم العالى المصرية وبعد استشارة المكتب الثقافى الكويتى فى القاهرة يتم قبول الطلاب. يقضى طارق أفضل أوقاته فى القاهرة بعد أن صار له الآن نحو عام ونصف بالمدينة الصاخبة، الممتلئة، المختلفة تماما عن بلده الصغير: «البلد هنا ملىء بالحياة! السير فى أحد شوارع القاهرة يجعلك تشاهد مليون تفصيلة وتفصيلة لم ترها من قبل». يقضى وقته إما بالجلوس يوميا على أحد مقاهى الحى المتميز أو تلك الواقعة بمنطقة الحصرى بالحى الثانى والتى اعتاد طلاب الجامعات الخاصة التردد عليها بعد انتهاء العام الدراسى، وصارت مكانا لتجمعاتهم، أو فى أحد المولات بداخل 6 أكتوبر، أو ينزل إلى القاهرة بسيارته الخاصة مترددا على أحد مقاهى الحسين أو المهندسين مع مجموعة من أصدقائه وأغلبهم من الأردن. « لم أستطع التعرف على مصريين إلى الآن رغم أننى أعلم أنهم طيبون جدا ربما لقلة عددهم فى القسم الذى أدرس به، وربما لأن الأسهل أن تتعرف إلى من هم فى نفس ظروفك أى: مغتربون مثلك». ولكن قبل عام ونصف، قضى طارق أسوأ وقت له داخل القاهرة: «أول شىء كنت شديد التوتر من النصب الذى تعرضت له بالأردن، وشعرت أن العام قد يضيع على، وثانيا كنت أشعر بفقد وحنين شديد لأهلى وكنت أتناول بالكاد وجبة فى اليوم، لم أستطع التعرف إلى الطلبة بسهولة، كما أن القاهرة كانت مختلفة تماما عما كان فى خيالى». بعد أن نجح طارق فى سحب ملفاته من جامعة إلى أخرى، أصبح عليه أن يجد بيتا. أشار إلى سائق تاكسى من أمام باب الفندق الواقع بطريق مصر الإسكندرية ومعه أغراضه وقال له: «أين يستأجرون البيوت هنا؟» لف به «التاكسى السمسار» كما يصفه طارق فى شوارع 6 أكتوبر يسأل البوابين والسماسرة عن شقق خاوية معدة لاستقبال الطلبة، بعد أن عرف طلباته: منطقة هادئة وراقية وبالقرب من الجامعة. «فى النهاية وصلنا إلى بيت بالحى المتميز حجرتان وصالة وبألف ونصف جنيه شهريا، أما التاكسى فأخذ نصيبه سبعمائة جنيه». أصر طارق على أن يخوض تجربة الغربة كاملة، لم يرتض أن يشاركه أحد شقته التى فرشها بنفسه بعد أن استغنى عن الأثاث القديم داخله، وبدلا منه اشترى بعض قطع الأثاث الأنيقة، ورتب كل شىء لاستقبال العام الدراسى الجديد. وبعد شهرين من عدم التأقلم وعدم الرغبة فى المواصلة، عاد طارق إلى بلده فى إجازة امتحان الميدتيرم بالجامعة (منتصف العام)، وهناك عرف أن هناك بيتا ينتظره فى مصر. «كانت أول مرة أحس فيها أننى أحب هذا البلد واشتاق إليه وأن هناك شقة تملأها تفاصيلى وعشت بين جدرانها وحدى وبعض الكتب الدراسية. عدت سريعا إليها وقد بدأت مرحلة التصالح مع القاهرة». كل شىء مختلف عن السعودية على «الكافيه» نفسه يجلس رزق الشاب السعودى من أصل فلسطينى الذى يقضى أسابيعه الأولى فى مصر لدراسة الهندسة المعمارية قبل أن يفيق من الصدمة الحضارية التى تلقاها، فالفارق كبير بين مجتمعه المتشدد بجدة والمجتمع القاهرى الأكثر تحررا وتنوعا واختلافا. «لم أعتد الاختلاط ببنات أبدا! لا يوجد شىء مثل هذا فى السعودية»، يقولها رزق الشاب الخجول قاصدا زميلاته فى الكلية. «كل شىء هنا مختلف عن السعودية: الأماكن أكثر رحابة، الشباب شكلهم مختلف فلا يوجد زى شعبى مثل الجلباب والعقال لدينا والنساء أيضا لهم أشكال متنوعة وأزياء مختلفة». كانت القاهرة بالنسبة لرزق دنيا أكثر احتضانا وإمتاعا من مجتمعه السعودى المحافظ الذى لا يحمل جنسيته لأن جدوده من فلسطين: «الحياة هنا بسيطة وآمنة، والمصريون طيبون ويحبون العرب». مر رزق أيضا بفترة صعبة أول أسبوعين: عدم مقدرة على النوم... فقدان رغبة فى الطعام... عدم القدرة على التواصل... وقلق بسبب وصوله متأخرا عن موعد بدء الدراسة بنحو أسبوعين. «والدى جاء من قبلى وقدم أوراقى بالجامعة واستصدر تأشيرة الإقامة وحجز لى الشقة ورتب كل شىء ثم أرسل فى طلبى، رغم أننى وصلت متأخرا على موعد التسجيل قبلت ببساطة شديدة بسبب سنة الفراغ». هذا العام يمثل سنة استثنائية فى الجامعات المصرية، بسبب ما عرف ب«سنة الفراغ» التى نشأت نتيجة إعادة الصف السادس الابتدائى قبل عشر سنوات، فأصبح هناك فى كل عام دراسى صف فارغ من الطلبة بخلاف الباقين للإعادة، وبداية من العام الجامعى 2010 2011 لمدة تصل إلى 7 سنوات فى كليات الطب مثلا يكون الاعتماد على الطلبة العرب، ولجأت الجامعات الخاصة إلى تقليل الحد الأدنى للقبول بالجامعات والتقليل من المصروفات وفتح باب التسجيل لمدة أطول. «دفعتنا كلها من فلسطين والأردن والكويت والسعودية، تقريبا لا يوجد مصريون، وهو من ناحية، جيد لأنك تختلط بشباب كلهم من المغتربين ولهم نفس ظروفك، لكنك فى الوقت نفسه لا يتسنى لك التعرف على طلبة من مصر، وهو ما يزيد من فرصة أن تظل غريبا فى البلد». مهما زادت احتمالية ألا يندمج أى من طارق أو رزق فى المجتمع المصرى طوال خمس سنوات يقضونها فى دراسة الهندسة، فإن الأمر لن يكون بجسامة الوضع بالنسبة لشادن البحرينية من داخل أسوار المدينة الجامعية. شادن منذ وصلت فى يد والدها إلى مطار القاهرة ومنذ أن سلمها إلى إدارة محل إقامة الطالبات أمام جامعة القاهرة لم تر تقريبا الشارع. «الحياة هنا مغلقة، أدرس العلوم السياسية صباحا وأعود سريعا إلى البيت عقب انتهاء دروسى. اقرأ قليلا وأخلد إلى النوم... حتى لا يوجد لدى زميلة بالغرفة للتحدث إليها». لم تدرس شادن الفتاة المحجبة العلوم السياسية لرغبة لديها، وإنما أراد أهلها الذين يعملون فى السلك الدبلوماسى أن تدرس ابنتهما المتفوقة العلوم السياسية فى جامعة معترف بها عالميا، مما يؤمن لها مستقبلا باهرا ووظيفة ثابتة تناسب عائلتها وبيئتها وإمكانياتها. أما شادن فتحب الرسم، وكانت تتمنى أن تدرس الفن التشكيلى «لكن الواقع مو بيساعد، كما أن عائلتى تعتبر الفن هزار عديم الفائدة». ورغم أن المدينة الجامعية تقع فى منطقة شديدة الحيوية بقلب الجيزة، فإن حركة شادن لا تتعدى غالبا بضعة أمتار تفصل حجرتها ومبنى الكلية. «المدينة الجامعية تزيد من عزلتى. أولا عددنا قليل داخلها هذا العام، كما أن الحياة هناك شديدة الجدية ولا يوجد بها مجال للتسامر أو التعرف على بنات أخريات، بعكس الحياة داخل الكلية فهى شديدة الحيوية: أنشطة ورحلات وحياة اجتماعية حافلة، لكنى لم أستطع كسر الخجل إلى الآن». بدأت الأمور تتغير فقط بعدما تعرفت إلى راوية، الفتاة التونسية التى تدرس الماجستير بالكلية نفسها وتكبرها بعشر سنوات كاملة حينما بدأت الأمور تتغير. «لا أشعر بفرق سن بينى وبين راوية. هى فتاة لطيفة جدا، وهى التى عرفتنى على مجموعة كبيرة من البنات والأولاد، وبدأت أكوّن صداقات وحياة مختلفة». أول مشوار بعدت خلاله شادن عن الجامعة وأسوارها كان إلى منزل صديقتها الجديدة بالمهندسين. تقضى الآن شادن وقتها بين الدراسة بالجامعة صباحا واكتشاف حياة عامرة فى القاهرة ليلا، ولكن قبل أن تغلق المدينة الجامعية أبوابها فى تمام العاشرة مساء. قبل أسبوعين فقط نشأت صداقة حميمة بينها وبين نجلا من تونس.. لتكتشفا الحياة معا.