بعض من انتقلوا إلى القاهرة ظلوا محتفظين بانطباعاتهم الأولى عنها حتى إن تبدلت أحوالهم وصاروا قادة فى الفكر والسياسة. أحدهم وفد إلى القاهرة فى بداية القرن الماضى من أجل الدراسة فى الجامع الأزهر، لم يكن مبصرا كى يرى بعينيه مشاهد يختزنها داخله لكنه بعد سنوات طويلة تحول إلى عميد للأدب العربى، يذكر طه حسين فى كتاب الأيام (مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1992) أن القاهرة كانت بالنسبة إليه «مستقر الأزهر، ومشاهد الأولياء الصالحين»، وحسب عبارته فلم يكد يصل إلى القاهرة «حتى سمع ذكر الأدب والأدباء، كما سمع ذكر العلم والعلماء»، ذلك المزيج أنتج عالما وأديبا فى شخص واحد. وفى كتابه «الأيام» الذى دون فيه ذكرياته يسجل فصولا عن تجربة الانتقال من الريف إلى المدينة فى الصغر، حيث افتقد مهابة العلم فى الريف التى نشأ عليها، وبعد سنوات من هذه الرحلة ووصوله إلى منصب وزير المعارف فى العام 1950 عاد طه حسين إلى القضية نفسها، التى عانى منها فى صغره بعد انتقاله إلى القاهرة، داعيا إلى مجانية التعليم وأن يكون «مثل الماء والهواء» بين الناس. تلك المفارقات التى خلقها التنقل بين الريف والمدينة فى الصغر صنعت قضايا لشخصيات أخرى كانت أكثر نفوذا، منها شخصية الرئيس السادات، إذ وفد هو الآخر فى صغره إلى القاهرة، وظل تأثير الاختلاف بين قريته «ميت أبو الكوم» فى محافظة المنوفية وأحياء القاهرة عالقا فى ذهنه، حتى دونه فى مذكراته التى كتبها تحت عنوان «البحث عن الذات» (المكتب المصرى الحديث، 1979). ورغم أنه قضى سنوات فى الخدمة العسكرية والحياة داخل القاهرة وخارجها فإن تمسكه الشديد بالجذور الريفية انعكس إلى حد ما على سياساته فى ذلك الوقت أو حسبما ترى الدكتورة سلوى شعراوى جمعة فى كتابها الدبلوماسية المصرية فى عقد السبعينيات، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية 1988)، فإن السادات كان يحرص على أن يقدم نفسه كعمدة فى أدائه السياسى، وقد انتقده محللون آخرون على استخدامه تعبيرات من نوعية «أخلاق القرية» أو «العيب» فى خطابه السياسى. وتكشف مذكرات الرئيس الراحل بعض هذه الأسباب، وخاصة فيما سجله من انطباعات أولية عن القاهرة فى قوله: «هكذا كانت حياتى طوال مدة تعليمى بالقاهرة، سلسلة من المقارنات أو المفارقات بين المدينة والقرية.. لكنها لم تكن فى أى وقت فى صالح المدينة بأى حال من الأحوال، على العكس أشياء كثيرة أزعجتنى فى القاهرة»، هذه الفقرة قد تعبر عما اختزنه الرئيس الراحل نتيجة انطباعاته عن القاهرة وكيف حاول نقل هذا إلى خطابه السياسى. النشأة القاهرية التى يعيشها أطفال لا ينتمون إلى المدينة لم يمر بها الرئيس السادات وحده بين الزعماء العرب، بل عاشها الرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات، إذ عاش فى بيئة قاهرية تشكلت فيها نواة حياته القادمة، وفى كتاب «من القلب هوى فلسطين» (تيميلى دومى لون جنيف باريس 2009) تنقل المؤلفة إيزابيل بيزانو عن شقيقة الرئيس الراحل أنه كان يمارس دور القائد العسكرى مع أطفال الحى الذين كانوا يطيعونه.. وتنقل المؤلفة عن حارسة العقار الذى نشأ فيه أنه كان كثير التسكع فى شوارع الحى، لكن النشأة القاهرية الرحبة لم تكن سببا مباشرا فى ظهور زعيم فلسطينى، لكن أسبابا أخرى كانت هى الأهم على رأسها دور ياسر عرفات بين الطلاب الفلسطينيين فى القاهرة، وهو ما أهل بعضهم إلى أن يكونوا رفقاء نضال فيما بعد. وبعد سنوات من هذه الرحلة لم يبتعد «أبوعمار» عن القاهرة وحتى وفاته ظل فى مرتبة الزعامة مثلما كان يقوم بالدور نفسه فى شوارع حى السكاكينى بالقاهرة.