فى مفتتح روايته المثيرة للجدل «أولاد حارتنا»، يؤكد عمنا الأكبر نجيب محفوظ أن «آفة حارتنا النسيان». ويقصد محفوظ بحارتنا مصر الأرض والبشر التى حملها فى عقله ووجدانه. وأظن أن النسيان ليس آفة حارتنا الوحيدة، فعلاوة على ذلك هناك قيمة عظمى غابت عن حارتنا منذ آلاف السنين، وهى العدالة، وبغيابها انتشر الظلم فى كل الأماكن والمجالات وعلى كل المستويات. والمدهش فى الأمر أن مشروع العم محفوظ الروائى قام بأكمله لإعلاء قيم ثلاث هى العدالة والحرية والمعرفة. والملاحظ أن العدالة تأتى فى المقام الأول فى أولويات محفوظ التى هى أولويات الشعب المصرى المسكين الذى عبر عنه محفوظ خير تعبير واستحق بجدارة صفة «روائى مصر الأول» بامتياز. وإذا نظرت إلى تاريخ العدالة فى مصر المحروسة، تجد أن المصريين القدماء كانوا من أوائل الشعوب التى اهتدت إلى معرفة وممارسة الحقيقة والعدالة والحق والقانون والنظام بمعناه العام، وأيضا النظام الكونى المتوازن، والقيم المعنوية والمادية المبنية والمستمدة من هذه المفاهيم المطلقة ومقوماتها الإيجابية. ورمزوا إلى هذا كله بإلهة ذات طبيعة حساسة وصفات عظمى. وكان من صدق حسهم وحدسهم بها وتعظيمهم لشأنها أن أطلقوا عليها اسم «ماعت». ويعنى هذا الاسم حرفيا «الصدق» أو «العادلة». واعتبروا هذه الربة المميزة ابنة لرب الأرباب، المعبود الكونى رب الشمس «رع». وصور المصريون القدماء عادة تلك الربة المهمة على هيئة سيدة تشير إلى العدالة فى مفهومها العام، إما واقفة أو جالسة، تعلو رأسها ريشة ترمز إلى نزاهة الحكم والعدالة المطلقة وتمسك بيدها اليمنى علامة «عنخ» التى كانت ترمز إلى الحياة مما يعنى أن الحياة لا تستقيم دون عدالة، وحملت فى يسراها صولجانا يرمز إلى الحكم الرشيد المستند إلى الحق والشرعية وتطبيق العدالة وسيادة القانون وتفعيل وارساء الحرية. ونظرا لما جسدته تلك الربة ماعت من قيم نظامية وأخلاقية عدة، فقد جسدت المفهوم الذى دعت آلهة مصر الرئيسية المؤسسة الملك الحاكم بصفته ممثلا لهم إلى تطبيقه كنظام كونى يدور النظام السياسى والإدارى وغيره من النظم فى فلكه. وأقام الملوك الفراعنة دولتهم العريقة والمستقرة على أساس من «الماعت» وبوحى وهدى منها وتحت إرشادها. وكان هذا أحد أهم أسباب نجاح وتميز وازدهار الدولة المصرية القديمة ورأس النظام الحاكم الممثل فى شخص الملك الذى كان يتولى الحكم نيابة عن الآلهة باسم «الماعت»، وكذلك ممثلوه، عبر تاريخ مصر الفرعونية الطويل. وكان فى الحياد عن تلك القيم المهمة فى مصر القديمة انهيار الدولة وسيادة الظلم وتفشى الفساد وغياب العدالة وفشل النظام حاكما وممثلين له ومحكومين. وكان عكس مفهوم الماعت مفهوم «الإسفت» الذى رمز إلى الفوضى والقيم الهدامة واللانظام والعشوائية فى كل شىء. ونظرة إلى الأمور الحالية فى مصر وما نعيشه تؤكد غياب مفهوم «الماعت» (العدالة) بكل ما تحمل هذه الكلمة العظيمة من قيم غالية مماثلة فى المعنى والمضمون لنظيراتها فى مصر القديمة مع اختلافها عنها فى الصياغة نظرا لاختلاف العصر وطبيعته وتعقد مشكلاته بطبيعة الحال. فكيف بعد كل هذه السنين الطوال وبعد أن كنا سباقين فى العدالة أن نحيد عن كل ذلك ونصير إلى ما نحن عليه من تخبط وفوضى وفساد وفشل فى كل شىء؟