حدث منذ عدة سنوات أن كنت أراجع بعض الدروس مع ابنى الطالب بالمرحلة الإعدادية، حيث صادفنا سؤال يطلب إعراب بعض الكلمات، وبين تلك الكلمات جاءت كلمة «أحمس»، ووجدتنى أردد على مسامع ابنى الصغير أن اسم «أحمس» ممنوع من الصرف لأنه «علم أعجمى». وبعد أن انتهيت من مهمتى تنبهت إلى تلك المفارقة الغريبة، وتعجبت كيف لم يسترع انتباهى من قبل ما انطوت عليه من تناقض مؤلم، إذ كيف يوصف أحمس بطل التحرير وطارد الهكسوس ومؤسس الدولة الفرعونية الحديثة بأنه «أعجمى» أى أجنبى بمعنى من المعانى؟ وتزداد المفارقة وضوحا عندما نتذكر أن نفس الوصف يحب أن يطلق على كل من مينا وزوسر وإيمحتب وخوفو وسيزوستريس وأمنمحات وسكننرع وحتشبسوت ورمسيس، وكذلك على طيبة ومنف وأون، وبالتأكيد على تحوت وإيزيس وحابى. وفى نفس الوقت خامرنى شعور قوى بأن تلك المفارقة اللغوية تمثل رمزا يتجسد فيه موقفنا نحن المصريين من تاريخنا القديم، حيث إن الشعور العام السائد لدى معظمنا تجاه كل ما يخص مصرنا القديمة يتوافق إلى حد بعيد مع روح تلك المفارقة، فهو يماثل الشعور تجاه قوم غرباء أو تجاه «أمة ما»، وهو شعور يفتقد تلك الحميمية التى تميز إحساس المرء تجاه آبائه وأجداده، ناهيك عن أن معارفنا عن هؤلاء الناس الفراعنة هى دون معارفنا عن أولئك وهؤلاء من مختلف أقوام الأرض. إن كل أمم الأرض تتدارس تاريخها القديم إن كان لها مثل هذا التاريخ وتتمثله وتستلهم رموزه فى الفن والأدب وشتى مناحى الحياة، ولكننا نحن نادرا نادرا ما نفعل ذلك، وغالبا غالبا ما نتطلع إلى قطف واستهلاك الثمار «تامة الصنع»، التى تطرحها بساتين الأغيار. فنحن نعرف عن سبارتكوس محرر عبيد روما أكثر مما نعرف عن أحمس محرر مصر من الهكسوس، ولا نمل من استعارة حصان طروادة وكعب أخيل وصخرة سيزيف، بينما نكاد لا نجد ذكرا فى ألوان آدابنا وفنونا الحديثة لدموع إيزيس أو عين حورس أو ريشة ماعت أو قارب رع، على ما فيها جميعا من حكمة وجمال. الأمثلة كثيرة ومثيرة للشجن عما نعرف وما لا نعرف وعما نحتفى به وما نهمله وعما نستوردهم من أبطال من جميع المواطن والأجناس، ولكنى اكتفى بهذا القدر على اعتبار أن الغاية هنا من الاستشهاد بتلك الأمثلة هى تمعن دلالتها قبل أن تكون تبين كثرتها وتعددها. ورغم أننى لست من أنصار الاستعاضة باجترار الماضى عن صنع الحاضر وتأسيس المستقبل إلا أن هذا لا يصح أن يتحول إلى متكئ نستند إليه فى تنكرنا لتاريخنا القديم، ليس فقط من باب إثبات الوفاء أو تأكيد الانتماء، ولكن ابتداء لأن الوعى بهذا التاريخ كفيل بأن يعيننا على حسن التقدم فى مدارج المستقبل، فنحن إذا شبهنا حاضر الأمم بساق النبات وما تحمله من أوراق وثمار، أى بما ظهر على سطح الأرض من جسد ذلك النبات، فإن التاريخ يلعب فى حياة الأمم ذلك الدور، الذى تلعبه الجذور فى حياة النباتات. إنها بما تدفعه إليها من ماء وأملاح تمنحها هيكلها وعصارة خلاياها، فضلا عن أنها تثبتها فى تربتها فى مواجهة الأنواء. وكما يمتزج نور الشمس وعناصر الهواء بماء الأرض وأملاحها، لكى تمنح للأوراق نضارتها وللثمار طعمها وألوانها وللسيقان قوتها وصلابتها، هكذا تتفاعل معطيات الحاضر مع موروثات الماضى لتعطى للأمم كيانها وشخصيتها وترسم معالم مستقبلها. وإذا تصورنا أن نباتا يمكن أن يحيا بلا جذور ثم ينضج ثمارا، جاز لنا أن نتصور أمة تعيش وتتقدم بلا تاريخ. وإذا استرسلنا فى الاستشهاد بعالم النبات وليس هذا بغريب على قوم من الفلاحين أمكننا أن نقول أيضا إنه لا يمكننا أن ندرس مواصفات هذا النبات الظاهر أمامنا فوق سطح التربة، وأن نحسن من مواصفاته إن أردنا إلا إذا درسنا أولا تلك التربة التى تمتد فيها جذوره، وعرفنا نوعية المياه، التى تمتصها تلك الجذور وأنواع الأملاح الذائبة فى تلك المياه، والمعنى الواضح أننا لن نستطيع فهم الحاضر وتأسيس المستقبل إلا إذا استوعبنا جيدا تاريخ أمتنا. يبقى أن نقول ما دمنا لا نزال فى عالم النبات أن الجذور أنواع، فمنها الجذور الوتدية، التى تتميز بالصلابة وتمتد عميقا فى طبقات التربة وتستمد ماءها وغذاءها من طبقات متعاقبة. ومنها الجذور الليفية التى تتصف بالهشاشة وتمتد أفقيا تحت سطح الأرض مباشرة. فإذا كان نباتنا من النوع الأول، كان علينا إن أردنا التعرف الحق عليه أن نذهب مع جذوره بالفهم والدرس والتحليل حيثما تذهب، وإذا كان نباتنا من النوع الثانى جاز لنا أن نكتفى من التربة بفحص تلك القشرة الرقيقة القريبة من السطح ونكف أنفسنا عناء البحث فى الأعماق. وعلينا أن نعى أنه إذا كانت زرعتنا فرضا ذات جذور وتدية، بينما تعاملنا نحن معها باعتبارها ليست كذلك، كان مؤدى هذا أننا سنقدم لها رعاية منقوصة تتجاهل ما تستمده من الأعماق من صفات ومكونات، فلا نكفل لها والحال كذلك إلا نمو شاءه لن يتسنى لنا أن نجنى منه فى النهاية إلا أوراق صفراء باهتة وثمار مرة أو فى أحسن الأحوال فجة. وإذا كان لى هنا أن أبدى رأيا فهو أن الدلائل فى الواقع تتعدد على امتداد جذور ثقافة أمة المصريين (ولا أقول ثقافة المثقفين) إلى المنابع المصرية القديمة، ذلك إذا انصرف حديثنا إلى الثقافة بمعناها العلمى الشامل، بما تنطوى عليه إلى جانب اللغة من فنون وخبرات وقيم وعادات وتقاليد وممارسات ومعتقدات وتصورات، بل إن المفهوم الأوسع للحضارة لا يعدم عناصر مادية جوهرية تحتفظ بسماتها، التى اكتسبتها من نفس المنابع «نظم الزراعة والرى على سبيل المثال». خلاصة القول إننا نضيق على أمتنا كثيرا إذ نحرمها من الانتفاع الحق بميراث عريض تنفرد بامتلاكه دون العالمين، وعلينا من باب أداء الأمانة أن نفتح طاقات بلا عدد بل إن ننحت نوافذ لا حدود لاتساعها ورحابتها لكى يطل منها أبناء الأمة على بساتين تاريخها المنسية. وهو قول يحتاج كما أعلم لأن يترجم إلى خطوات وتفاصيل وإجراءات، ولكن هذا شأن يتطلب حديثا مستقلا.