كان عام 6491 عاما عظيم الأهمية في تاريخ مصر الحديث، يمكن أن نسميه عام المد الثوري، أو عام اللجنة الوطنية للعمال والطلبة، ويمكن أن نسميه عام الشهداء - في كوبري عباس وغيره. يمكن أن نسميه بأي اسم من هذه الأسماء أو غيرها، ولكنني أحب أيضا أن أسميه بعام »كمال عبدالحليم«، ذلك أن هذا العام هو الذي شهد سطوع نجمه، كشاعر، وكمناضل. وكنت أعرف كمال عبدالحليم قبل ذلك العام بسنوات عديدة، وقد جمعت بيني وبينه أواصر الزمالة والصداقة منذ كنا تلميذين صغيرين في القسم الداخلي لمدرسة حلوان الثانوية، ثم بعد ذلك في الدراسة الجامعية، وما بعدهما. ومنذ أن كنا في حلوان الثانوية. عرفت أنه قد بدأ في كتابة الشعر، وكانت له محاولات مبكرة في هذا المضمار، ولكنها لم تتعد محاولات شاب مبتديء لاتلفت النظر. ولكن حدث في صيف سنة 3491، أثناء وجودي »بالزاوية«، خلال العطلة الصيفية أن تلقيت خطابا من كمال، يطلب مني أن أصغي إلي الاذاعة المصرية يوم كذا.. الساعة كذا مساء. وذهبت إلي أحد المقاهي في بندر الواسطي، كان به جهاز راديو واستمعت، واذا بالمذيع يقدم لأغنية عاطفية، من شعر الشاعر »كمال عبدالحليم«. وتلحين الملحن »فلان« وغناء المطربة الموهوبة، »فلانة« واستمعت إلي الأغنية، وكانت كلماتها كالآتي: في عالم الحب مضي العمر حيرانا/ تدنيه آنا وتأسو جرحه آنا/ واليوم يشكو صدودا منك ناء به/ كفاك تيها، كفاكي اليوم هجرانا/ انظر إليه ففي عينيه قصته/ وقد تقص دموع العين أحيانا ... كانت الكلمات جميلة، متدفقة بالمشاعر الجياشة الصادقة، وكان اللحن معبرا، وكان الغناء جميلا عذبا معبرا عن شعور فياض. ثم مرت أسابيع أخري، وتلقيت خطابا آخر من كمال، وذهبت إلي المقهي في الموعد الذي حدده في خطابه، وسمعت أغنية أخري، من نفس الشاعر، ونفس الملحن، ونفس المغنية »الموهوبة« وكانت الأغنية قمة في الروعة. بكلماتها التي تبلغ حد الكمال، ولحنها السهل المتدفق، وبعذوبة الغناء وحرارته. وشعرت أن كمال قد تغير، وأنه أصبح شخصا آخر. وحين عدت إلي القاهرة التقيت به، فأسمعني قصيدة أخري، جاء فيها: جمعتنا قداسة الفين لكن فرقتنا طبيعة الانسان.. أنت فنانة، فكيف ترائين - وتغضين عن هوي فنان انما الفن فورة وانطلاق وخروج من عالم الكتمان كنت أصغي إلي كمال وأنظر إليه وهو يتلو عليّ قصيدته. فأحس بأني أمام شخص لم أعرفه من قبل، شخص ذاهل معذب ممرور، لايصدق ما يحدث له أو يجري أمام ناظريه، وعلي مدي الشهور التالية، سمعت منه عددا من القصائد العاطفية الأخري، كانت تفيض من نفس المنبع. وأخيرا، فتح لي كمال قلبه، وعرفت منه قصته. كان في أول العطلة الصيفية الفائقة حين تعرف بالمطربة الشابة، فقد ذهب إلي منزلها بصحبة شخص قد تعرف إليه مؤخرا هو الدكتور »س« وكان المنزل في حي القلعة، وكانت فوق سطحه حديقة يجلس فيها أصحاب المنزل وضيوفهم، وكانت المطربة الشابة تجلس هي وبعض الأشخاص، أخواها، الملحن وشقيق آخر يدرس الموسيقي أيضا، وعدد قليل من الضيوف. وقدمه الدكتور »س« إلي الحاضرين، بأنه الاستاذ كمال، الشاعر، ونظرت المطربة إلي الشاعر، وقد بدا عليها الاهتمام به. وكان إلي جوارها عود يخص شقيقها الملحن، وبعد قليل من السمر، طلب الدكتور »س« من المطربة أن تسمعنا شيئا من غنائها، ولم تتمنع كما يفعل معظم المطربين، فأبدت موافقة، وأشارت إلي شقيقها الملحن، فأمسك بالعود، وابتدأ في ضبط أوتاره، ثم أخذ يوقع لحن أغنية قديمة من أغاني أم كلثوم هي أغنية: ياللي ودادي صفالك. وكان صوتها قريبا جدا من صوت أم كلثوم في العهد الذي قدمت فيه تلك الأغنية: إلي درجة أن السامع كان يخيل إليه أنه يسمع لأم كلثوم نفسها، وحين بلغت مقطع الاغنية الذي يقول: وان كان نسيم الليل ساري/ عاطر بانفاس الياسمين،/ يفضل يداعب أفكاري/ والقي هواك أشواق وحنين وكان هناك نسيم يمر، وكان هناك ياسمين في تلك الحديقة، أخذ الطرب يأخذ بنفس كمال كل مأخذ، ونبع في وجدانه البيت الذي جاء في قصيدته التي كتبها بعد ذلك، وهو: مثل هذا الغناء لم يسمع الكون/ ولم تنفرج به شفتان.. وانصرف كمال من منزل الفنانة في ذلك اليوم، وهو شخص آخر، عرف الحب الطريق إلي قلبه، وأصابته سهامه في مقتل، وكتب لها قصيدته: في عالم الحب، ولحنها شقيقها الملحن، وقدماها إلي الإذاعة، فقبلت، وسجلت، وأذيعت، ولاقت استحسانا من المختصين في الاذاعة، ومن كل من سمعها، وتوالت الأيام، وكتب لها كمال الاغنية التالية، وهي قصيدة: ذلك اليوم هل تري تذكرينه.. ولحنها الشقيق، وقبلتها الاذاعة، وغنتها المطربة، فلقيت نجاحا أعظم. وشعر كمال أن المطربة كانت كأنما تغني له وحده، وأن قصة الشاعر أحمد رامي، مع المطربة أم كلثوم تتكرر، بل إنها تكررت فعلا، ولم يكن لديه أدني شك في أن سهام الحب التي أصابته، قد اصابتها هي الأخري. وتوالت قصائده وكأنها تنبع من ينبوع فياض داخل قلبه، إلي أن جاءته الصحوة. نما إليه من الدكتور »س« ذات يوم، أن المطربة قد تمت خطوبتها إلي شاب آخر، كان يتردد هو الآخر علي حديقة السطح، ولم يكن يخطر علي بال كمال أن المطربة سوف تؤثره عليه، وهكذا فقد أعطت المطربة »الموهوبة« ظهرها للشاعر »الموهوب«، وآثرت عليه شخصا آخر، كان ضابط شرطة شابا من معارفها، وكان هو أيضا »موهوبا« إذ أنه أصبح بعد ذلك بوقت طويل، وزيرا للداخلية، بل من أهم وزراء الداخلية في الزمن التالي. وبعد قليل، تزوجت المطربة من الضابط، وعرف كمال الإجابة علي سؤاله الذي كان قد وجهه إليها في قصيدته الثانية، والذي سألها فيه: هل أنا العاشق الذي تؤثرينه.../ أما أنا الواهم الذي تخدعينه. وأغلب ظني أنه لم يكن هناك خداع بمعني الكلمة، كل ما في الأمر أن المطربة وجدت أمامها طريقين: أحدهما فيه مجرد طالب وشاعر لايمكن التنبؤ له بمستقبل معلوم، والثاني ضابط شرطة له وظيفة هامة ومستقبل مضمون، فاختارت الطريق الأضمن، وكان هذا عذرا مقبولا لها وأمام الآخرين بل ربما أن الفتاة كانت عندها حاسة سادسة، تنبأت بها إلي الأهوال التي كانت تنتظر كمال في مستقبله القريب، فقررت أن تنأي بنفسها عنها. أصابت الطعنة الشاعر في مقتل، ولكنها فجرت فيه ينابيع من الشعر العاطفي الجياش الذي لم ينشد مثله أحد، وكانت تلك هي التجربة الأولي. أما التجربة الثانية، فكانت حين أصابه الوعي السياسي والاجتماعي بصاعقه أخري، واختار الطريق الأكثر صعوبة وخطورة، وهو طريق النضال، والذي قال عنه: عيد ميلادي الذي أعرفه/ يوم كافحت وأجبت الكفاح/ وتمشت في دمائي ثورة/ تنسف الظلم فتذروه الرياح أصبح مناضلا شيوعيا، وتدفقت ينابيع نبوغه الشعري، حتي أدهشت بقوتها وجمالها كل حيلة، وفتحت له الصحف والمجلات التقدمية واليسارية صفحاتها، فتوالت قصائده الثورية في وقت قليل، قصائد كأنها خرجت من فوهة بركان، وصيغت حروفها من حديده المنصهر. وكانت تلك الأشعار، هي أهم دليل ساقه اسماعيل صدقي كمبرر لحملة 11 يوليو التي شنها لقمع القوي الوطنية والديموقراطية والتقدمية، ووقف في مجلس الشيوخ يلقي بعضها علي أعضاء المجلس، في بيانه المعروف، ألقاها بصوت مرتعش مشروخ، حتي أن أحد الباشوات من أعضاء ذلك المجلس، وقف يقاطع صدقي ويقول له: - كيف يقول هذا الكلام، ولماذا لم يسجن منذ زمن؟ وكان كمال قد ألقي به في السجن فعلا منذ قليل، ولكنه سرعان ما رد بعد أن أفرج عن كمال من ذلك السجن، وبعد فترة من الزمن شعر بأن الشرطة تضيق عليه الخناق في مراقبتها لتحركاته وسكناته، وطلب مني أن أصحبه إلي قريتي »الزاوية« ليمضي فيها بعض الوقت، وسافرنا إلي هناك، وأقام معي في منزلنا الذي كان شبه مهجور في ذلك الحين، وكان بعض الأقرباء يتردد علينا من حين لآخر، ليقدم لنا بعض ما نشاء من المعونة، وذات مرة حضر بعضهم، وكان منهم أحد أعمامي وهو الشيخ عبدالمقصود أبو محمد، وكان مزارعا »ثريا« وشيخا وقورا قليل الكلام جدا، وجلسوا معنا بعض الوقت، وكان كمال يتكلم بصوته الخافت، كلاما عاديا مألوفا. ويبدو أن الشيخ عبدالمقصود قد أعجب بشخصية كمال، فدعاه في اليوم التالي إلي وليمة عامرة في بيته، وذهبنا، وبعد الفداء، انتهز عمي عبدالمقصود فرصة ذهاب كمال إلي الحمام، ومال علي قائلا: - صاحبك ده رجل أحمس. ولم أفهم وقتها معني كلمة »أحمس« هذه، وظللت فترة طويلة أسأل عنها فلم يجبني أحد، كما أنها لم تصادفني في أي من قراءاتي، وأخيرا، ومنذ وقت قريب، وجدتها في قاموس مختار الصحاح، وجاء بي ما يلي: - أحمس: الأحمس: الشديد الصلب في الدين وفي القتال، والحماسة الشجاعة، والأحمس أيضا الشجاع. وأدركت ما كان يعنيه عمي في وصفه لكمال بالأحمس، واقتنعت بأنه كان يدرك معني الكلمة، وأنه هو نفسه، كان رجلا »أحمس« رحمهما الله، صديقي كمال، وعمي عبدالمقصود. ولا أجد ما أختتم به كلامي عن كمال عبدالحليم، إلا أن أورد بعض ما قلته عنه في القصيدة التي قلتها في رثائه: بعد أن توفي في عام 4002. سلام عليك أخي ياكمال/ سلام علي الشعر والشاعرية/ سلام عليك رفيق النضال/ سلام علي الصحبة العبقرية .... تلوح لعيني عبر الدموع/ مشاهد أيامنا الخالية/ شاهد عهد الصبا والشباب/ وأطياف أيامه الزاهية.