لقد أدى تحول مساحات واسعة من الأراضى الزراعية فى أواخر عصر المماليك من ملكية الدولة إلى ملكية الخاصة للأفراد، بسبب التوسع فى البيع من أملاك بيت المال إلى تغيرات فى البنيان الاجتماعى لمصر فى عصر المماليك الجراكسة، فإلى جانب تحول شكل العلاقة بالأرض من علاقة حيازة للمنفعة إلى ملكية رقبة كاملة، أصبحت الأرض الزراعية مصدر الثروة الرئيسية فى المجتمع سلعة متداولة تنتقل من يد إلى يد أخرى بسهولة، وأصبحت الأرض متاحة لمن يملك ثمنها، بغض النظر عن انتمائه للهيئة العسكرية الحاكمة (أمراء المماليك) أو لقمم الجهاز الإدارى للدولة؛ وبذلك لم تعد السلطة السياسية وحدها هى مصدر الاستحواذ على ريع الأرض الزراعية. ومن هنا فقد اتسعت قاعدة الملكية الخاصة وتغيرت بصورة يمكن أن نتحدث معها عن بوادر ظهور طبقة جديدة من ملاك الأراضى الزراعية، تجمع بينهم مصالح مشتركة ترتبط بملكية الأرض. وقد نستطيع أن نحدد الملامح العامة لتلك الطبقة الجديدة التى انتقلت إليها ملكية نصف الأراضى الزراعية فى مصر بصورة تقريبية، وذلك من خلال العينة الممثلة التى تقدمها لنا الوثائق والدفاتر المالية، التى وصلت إلى أيدينا، والتى تكشف عدة أمور أهمها: إن أكثر من نصف حالات البيع من أملاك بيت المال فى عصر المماليك الجراكسة ذهبت إلى الطبقة الحاكمة متمثلة فى السلطان وأمراء المماليك. كما أن خمس حالات البيع كانت لأشخاص مرتبطين بأمراء المماليك، كأولاد الناس، وهم أبناء المماليك، وزوجات المماليك وعتيقاتهم وجواريهم. بينما شكلت حالات البيع لأشخاص من أصول غير مملوكية نسبة الربع تقريبا. وتضعنا هذه المؤشرات أمام صورة تقريبية للمجموعة التى انتقلت إليها ملكية قسم كبير من الأراضى الزراعية فى مصر فى عصر المماليك الجراكسة، وهى مجموعة يمكن تقسيمها إلى ثلاث فئات رئيسية وفقا لأصولها العرقية ووظيفتها الإجتماعية: الفئة الأولى: الطبقة العسكرية الحاكمة، التى تتكون من السلطان وأمراء المماليك الذين يحترفون القتال، ويشكلون قمة السلطة السياسية فى الدولة، وقد ترتب على بيع جزء من أملاك بيت المال لهم تحولهم من حائزين للأراضى إلى ملاك لها، بما فى ذلك السلاطين أنفسهم، الأمر الذى يتيح استقرار الثروة فى أيديهم وأيدى ورثتهم الشرعيين من بعدهم. الفئة الثانية: تنتمى بصلة الدم أو الزواج أو الرق لبعض أفراد الفئة الأولى، وتتكون بشكل أساسى من «أولاد الناس»، ثم زوجات أمراء المماليك وجواريهم. الفئة الثالثة: فتتكون من عناصر بعيدة تماما فى أصولها العرقية والوظيفية عن المماليك، فأفرادها من أصول عربية مختلفة أو مصرية، وهم بعيدون فى الغالب عن الوظائف العسكرية، وتشكل مشاركتهم فى امتلاك الأرض الزراعية تغيرا ذا دلالة فى الوضع الذى ساد فى مصر لعدة قرون سابقة. وإذا كانت الفئة الأولى (السلطان وأمراء المماليك) بعيدة تماما عن الفئة الأخيرة من الملاك، فإن الفئة الثانية، والتى تتشكل من «أولاد الناس» أساسا، كانت تتجه بشكل تدريجى إلى الاندماج مع الفئة الثالثة، ليشكلا معا نسيجا واحدا متجانسا إلى حد كبير، فبحكم طبيعة النظام المملوكى فإن «أولاد الناس» كانوا يبتعدون عن احتراف القتال. ويتجهون بشكل عام إلى الاختلاط بالمجتمع المصرى، ويشاركون فى حياته المدنية. ولا شك فى أن الاتجاه إلى تجميع الملكية وتراكم ثروة المجتمع فى يد فئة لا تحترف القتال، ولها فرص أكبر فى الحياة، كان يمكن أن يؤدى إلى إدارة ثروة المجتمع بشكل أكثر رشادا واستقرارا. لقد كان تغير العلاقات الاجتماعية الناتج عن تغير شكل الملكية فى المجتمع، وظهور ملامح طبقة جديدة من الملاك، نصفها تقريبا من أولاد الناس والمصريين يمكن أن يؤدى إلى خروج البلاد من أزمتها الطاحنة، خاصة فى ظل عجز طبقة المماليك عن الاستجابة للتحديات، التى كانت تحيط بالمجتمع آنذاك، بل وتحولها إلى عقبة فى طريق تطور ذلك المجتمع. غير أن هناك مجموعة من العقبات وقفت فى طريق هذا التطور المهم، الذى شهدته مصر فى عصر المماليك الجراكسة أهمها: أولا: إن ملكية الأراضى الزراعية كانت فى أغلب الأحيان ملكية شائعة غير مفرزة، أى أن المشترى يقوم بشراء حصة من أراضى قرية فى ناحية من النواحى، أو قرية من القرى دون تحديد لحدودها. ومن هنا فهو يملك جزءا من ريع الأرض أكثر مما يملك الأرض نفسها، وبرغم أن هذا الوضع لم يكن يشكل قيدا على حرية المشترى فى التصرف فيما يملكه، فإنه كان يدخل الدولة بشكل أو بآخر كطرف حاضر دائما فى علاقة الملكية، فيبدو أن تحصيل الريع كان يتم من خلال الشاد فى الناحية، وهو موظف إدارى مالى يتبع الدولة. وإذا أضفنا إلى ذلك أن الملاك عادة باستثناء مشايخ العرب ومشايخ النواحى كانوا ملاكا غائبين، فإن هذه الأوضاع كانت تضعف إلى حد ما من الآثار الاجتماعية الإيجابية لظاهرة البيع من أملاك بيت المال. ثانيا: المصادرات للأملاك والأموال التى عرفها عصر المماليك الجراكسة، الأمر الذى أصبحت معه الملكية غير مستقرة، كما أصبح أصحاب الأملاك خاصة من الأمراء وكبار الموظفين قلقين باستمرار على ثرواتهم العقارية، وهو وضع غير مشجع بشكل عام على تحقيق تراكم للثروة. ثالثا: ترتب على ما سبق اتجاه الكثيرين إلى وقف أملاكهم حماية لها من المصادرة، وبرغم أن نظام الوقف الأهلى كان يتيح للواقف (المالك السابق) ولورثته من بعده الحصول على القسم الأكبر من ريع أملاكهم، فإن نظام الوقف كان يحد من الدور الاجتماعى للملكية الخاصة بصفة عامة. ثم جاء الاحتلال العثمانى، فقطع الطريق على استمرار التحولات الاجتماعية، التى ارتبطت بالبيع من أملاك بيت المال، وآخر التطور الطبيعى لتلك الطبقة الجديدة لفترة من الزمن، فقد توقفت عمليات التملك للأراضى الزراعية لسنوات، باستثناء ما يتم بيعه عن طريق ديوان المواريث الحشرية، وبذلك أجهض الغزو الخارجى الإمكانات الكامنة فى المجتمع، وأجل عملية التحول الكامل إلى شكل الملكية الخاصة للأرض الزراعية لعدة قرون أخرى، فلم تستقر الملكية الخاصة فى مصر تماما إلى بصدور اللائحة السعيدية سنة 1858م. وباستقرار الملكية الزراعية وقعت تغيرات سياسية واجتماعية مهمة تأخرت لأكثر من ثلاثة قرون بسبب الاحتلال العثمانى. تبقى ملاحظة مهمة على صورة التكوين الاجتماعى الجديد الذى نتج عن قيام الدولة بالبيع من أملاك بيت المال فى عصر المماليك الجراكسة، فلا شك فى إن عمليات الانتقالات التى أعقبت شراء العقارات من بيت المال ترتب عليها تعديل لملامح هذه الصورة، وتكشف لنا الوثائق والدفاتر المالية عن مقدار التغير الذى طرأ على فئات الملاك بعد الانتقال فى الملكية. أولا: إن قرابة ثلثى الأراضى ظلت ملكا للمشترين أو أسرهم أو ورثتهم الشرعيين، أو انتقلت إلى جهات وقفهم، الأمر الذى يشير إلى قدر من استقرار الملكيات فى إطار أسر محدودة. ثانيا: برغم أن الانتقال بالوراثة قد حافظ على الملكية فى الإطار الأسرى، فإنه غير الصورة إلى حد كبير على المستوى الفئوى لصالح «أولاد الناس»، حيث إن ورثة أمراء المماليك غالبا ينتمون إلى هذه الفئة. ثالثا: إن الانتقالات التى تمت خارج النطاق الأسرى ونسبتها تقرب من الثلث انتقلت إلى ملكية السلاطين، وهذا مؤشر مهم على مدى استشراء ظاهرة الفساد، التى ارتبطت بعمليات البيع من أملاك بيت المال خاصة فى عصر السلطان قانصوه الغورى، فالسلطان يبيع أملاك الدولة لنفسه عبر وسيط.