نشرت صحيفة «الشروق» فى عدديها الصادرين يومى 28 و29 يونيو حوارا مع المرشد العام للإخوان المسلمين، الأستاذ الدكتور محمد بديع، تناول فيه قضايا متعددة بعضها يتعلق بالداخل الإخوانى وتطوراته، وبعض آخر يتعلق بمواقف الجماعة الفكرية والعملية من القضايا الملحة المطروحة على الجماعة الوطنية المصرية، وفى حين حملت سطور الحوار بعض ما يبعث على التفاؤل، فإنها حملت معه كذلك الكثير مما يبعث على القلق. والدافع الحقيقى للقلق هنا هو أن جماعة الإخوان تعتبر الفصيل الأكثر تأثيرا فى الجماعة الوطنية المصرية، وذلك بحكم قوتها العددية والتنظيمية والاجتماعية، ولحظات التغيرات الكبرى كتلك التى تمر بها مصر والمنطقة تفرض هذه القوة على صاحبها التزامات ومسئوليات أكثر مما تمنحه حقوقا وامتيازات، وفى مثل هذه اللحظات فإن القوى الرئيسة إذا رأت فى قوتها ما تستحق به حقوقا أكثر مما يجب عليها من التزامات فإنها تصبح عائقا فى طريق الإصلاح الوطنى، وتضرب نفسها والحركة الوطنية من حيث لا تدرى فى مقتل. وأتصور أن المسئولية الكبرى الملقاة على عاتق الإخوان باعتبارها الفصيل الأكبر فى الحركة الوطنية هو قيادة الحركة باتجاه تحقيق مقاصدها، وهو ما لن يتحقق بغير تحول الإخوان من جماعة إسلامية كبرى إلى جماعة وطنية كبرى، لا بالتخلى عن الهوية الإسلامية، وإنما بالبناء عليها فى إطار وطنى، يتبنى خطابا وطنيا يقوم على فكرة الاستقلال الحضارى، والارتكاز على تراث الأمة، يتعامل مع مشكلات الواقع المصرى، ويتخير من البدائل الفقهية ما يحقق المصلحة الوطنية، ولا يدخل نفسه فى معارك صغيرة تشتت الانتباه عن القضايا الرئيسة؛ تحول مثل الذى قامت به الحركة الإسلامية التركية فى العقد الأخير، ومكنها من إنهاء حالة الخصام التاريخى هناك بين القوميين والإسلاميين، على نحو حقق المصالح التركية وأعادها لاعبا مؤثرا فى السياسة الإقليمية يخدم مصالح الأمة ويدافع عنها، كما ظهر جليا فى المواقف التركية الأخيرة حيال القضية الفلسطينية وغيرها. وهذا التحول لا يقوم على خطاب يميز بين المواطنين فى تولى المناصب العامة فلا يرى أهلية للمرأة ولا القبطى فى تولى الرئاسة، فإذا كان المرشد قد أكد فى حواره أن هذا الموقف مبنى على «رأى علماء الأزهر أن هذا الأمر يقصد تولى القبطى والمرأة للرئاسة شرعا لا يجوز» فإنه يدرى بكل تأكيد أن هذا ليس محل إجماع، بل لقد صرح المرشد السابق بأن هذا الأمر «خيار فقهى» للجماعة، والجماعة كما هو معلوم ليست مجمع بحوث شرعية ولا هى مذهب فقهى، وبالتالى فإن خياراتها الفقهية تكون بالترجيح بين الآراء المعتبرة لا على أساس فقهى وإنما على أساس مقاصدى يتعلق بالمصلحة، ولا يدخل بالجماعة إلى مثل هذه المعارك الصغيرة، ثم إن إصرار المرشد على غلق باب المناقشة فى هذا الموضوع لا يؤدى لتجاوزه وإنما لتعميق الهوة بين الإخوان وغيرها من فصائل الحركة الوطنية على نحو يعجزها عن الاضطلاع بدورها الواجب. وهذا التحول كذلك يقتضى انتقال الجماعة من الموقف الدعوى (الفوقى) إلى موقف الند المشارك، وهو أمر لا يقوم على خطاب يرسل فيه المرشد برسالة لقوى المعارضة يقول فيها: «أول ما يذكركم به المرشد أن تجتمعوا أولا حتى نتعاون معكم»، ولو استصحبنا أن إحدى المشكلات الأساسية التى تواجه القوى الوطنية المصرية هى تفرقها وعدم اجتماعها فإن رسالة المرشد هذه تكون بمثابة قوله لهم: حلوا مشاكلكم أولا حتى نتعاون معكم وهى كلمة تعكس الإحساس بامتيازات القوة أكثر من الإحساس بمسئولياتها، وتلك النبرة تبدو واضحة فى أماكن متفرقة من الحوار. والحقيقة أن موقف الإخوان من هذا التحول محبط، إذ يبدو لى أن ساحة العمل الوطنى المصرية مستعدة لاستقبال لاعب رئيس، بل هى متلهفة لوجوده، ولكن الإخوان لم يأخذوا الخطوات التى تؤهلهم لملء هذا الفراغ، وهى خطوات تتعلق بالداخل الإخوانى، وبالطرح الفكرى، والمواقف الواقعية جميعا. أما على الصعيد الداخلى فإن الجماعة بحاجة لقدر من المؤسسية يقوى من شوكتها ومن فاعليتها من جهة، ويضفى عليها مزيدا من الشرعية الديمقراطية فى الشارع المصرى وبين قوى الحركة الوطنية من جهة أخرى، وتلك القضية على كونها مهمة فى كل وقت فإن السير فى طريقها يصبح أكثر إلحاحا فى هذه المرحلة من عمر الجماعة، التى تتآكل الشرعية التاريخية لقيادتها بانتهاء عهد المؤسسين الذين بنوها، ولا بديل للجماعة عن الانتقال للشرعية المؤسسية التى تبرر لدى الأفراد وجود كوادر بعينها فى مواقع القيادة، وتوضح بشكل مؤسسى الحقوق والواجبات التنظيمية. وإذا كان المرشد قد تحدث فى حواره فى غير موطن عن أهمية المؤسسية بشكل يبعث على الاطمئنان إلى إدراكه لخطورة هذه القضية، فإن حديثه عن رفض الفصل بين السلطتين التشريعية (مجلس الشورى) والتنفيذية (مكتب الإرشاد) فى الجماعة باعتبارها جماعة «لا يسمح فيها بالفصل بين قيادتها ومجلس شوراها وهذا هو توجهنا» يبعث على القلق، إذ يعطى انطباعا بأن الجماعة فى سعيها لإصلاح النظام المصرى بالدفع نحو المزيد من المؤسسية تأمر الناس بالبر وتنسى نفسها، كما يعطى انطباعا بأن الجماعة غير راغبة فى التطوير، وهى سمات إذا وجدت فى أكبر فصيل وطنى فإنها تؤثر سلبا ولا شك على القوى الوطنية كافة. ثم إن عدم السير بجدية فى اتجاه المؤسسية باعتبارها وآلياتها السبيل الأمثل للتعامل مع الخلافات التنظيمية والفكرية يعنى أن الجماعة ستبقى غير قادرة على حسم الخلافات الاستراتيجية بين قياداتها وأفرادها، وهو ما يعنى استمرار حالة التردد الاستراتيجى الذى تعانيه الجماعة، الذى دفعت ثمنه غاليا، وتجر الحركة الوطنية المصرية لدفع الثمن معها. وأقصد بذلك أن الأسئلة الكبرى فى الجماعة تبقى بلا إجابة، ومن ذلك السؤال عن الصورة المستقبلية المرجوة لها، وهل تطمح للإصلاح بآليات الحزب السياسى عن طريق الوجود فى السلطة والمنافسة عليها على المدى المتوسط أو البعيد، أم أنها تسعى له بآليات جماعة الضغط من خلال تحالفات وعلاقات معينة من دون منافسة سياسية مباشرة، أم من خلال آليات المؤسسات الاجتماعية بالتواجد فى خلفية المجتمع وتشكيل هويته، أم غير ذلك من الوسائل؟ وغنى عن البيان أن لكل من هذه الآليات استراتيجيات وطبائع تنظيمية وأنماط علاقات بالآخر (بل وتعريف للآخر) مختلفة ومتباينة، وإذا كان ما يبدو أنه قرار استراتيجى للجماعة بعدم الحسم حيال هذه الأسئلة يحافظ على تماسكها وقوتها التنظيمية، فإنه يبقى هذه القوة (أو ربما الضخامة تكون كلمة أدق فى هذا السياق) التنظيمية غير مستغلة ويستحيل توجيهها فى أى من هذه المسارات، وهو ما يبقى الجماعة فى حالة دائمة من التردد الاستراتيجى، الذى يختفى غالبا خلف عبارات مغرية ولكنها غامضة لا تحمل إجابات حقيقية، كقول المرشد إن الجماعة «تحمل الإسلام بشموله، وبالتالى فعليها المشاركة فى كل فروع العمل الإسلامى لتقدم نموذجا مشرفا للإسلام يليق بهذا الدين العظيم»!! ويظهر هذا التردد الاستراتيجى فى الموقف من النظام ومن قوى المعارضة على حد سواء، فالإخوان فى هذا الحوار وغيره يتحدثون تارة باعتبارهم لاعبا اجتماعيا، لا يسعون لمنافسة الحزب الحاكم على كراسى الحكم، بل هم على استعداد كما يقول المرشد أن يكونوا خدما للنظام الحالى لو حكم بشرع الله! وهذه العبارة معبأة بالمشكلات: فهى أولا تفترض أن هناك شيئا واضحا محدد الملامح متفقا عليه اسمه «شرع الله» (وهو ما لا يصح باعتبار الشرع أحكاما جزئية، لوقوع الخلاف وتعدد الاجتهادات بين الأئمة، وهى كلها على تنوعها شرع الله، وبعضها يسمح بتبرير أغلب الإجراءات التى يقوم بها النظام، ولا يصح إلا بالنظر إلى الشرع من حيث مقاصده ومآلاته، التى هى فى جوهرها فى هذا الإطار إنسانية تقوم على العدل والحرية واحترام البشر. ولا تكون حينئذ قصرا على الإسلاميين وحدهم بل هى مطالب الوطنيين كافة)، وهى ثانيا تفترض أن المشكل مع النظام المصرى يتعلق بالشرع (وهو ليس كذلك، إذ يندر أن يوجد فى القوانين المصرية ما يخالف إجماع الشريعة، وهى قضايا مختلفة عن تلك التى يدور حولها الجدل فى قضايا الإصلاح أصلا)، وعلى كل فهذا الموقف يختلف قطعا عن الموقف الذى يرفض بشكل قطعى كل أشكال الحوار مع الحزب الحاكم نفسه! ويظهر هذا التردد فى الموقف من النظام أيضا فى رفض تقديم طلب إنشاء حزب للجنة الأحزاب لاعتراضهم عليها ولعلمهم المسبق برفض طلبهم، مع خوضهم الانتخابات رغم رفضهم الصورة الحالية للإشراف عليها (بعد التعديلات الدستورية) وعلمهم المسبق بأنها ستزور. ويظهر التردد ذاته فى العلاقة مع قوى المعارضة، فالإخوان بسبب هذا التردد حريصون على الإمساك بالعصا من المنتصف دائما، فلا هم مع الدكتور البرادعى بشكل كامل ولا هم منفصلون عنه بشكل كامل، وهم مدركون أن الانتخابات القادمة ستزور نتائجها ويحكمهم التردد فى الموقف من مقاطعتها، ولا هم ينسقون بشأن خوضها مع قوى المعارضة بشكل كامل ولا هم مستقلون عنهم بشكل كامل، ولا هم متضامنون مع تحركات القوى السياسية والاجتماعية فى الشارع ولا هم منفصلون عنها. والمشكل فى رأيى هو أن الإخوان يفترضون أن هذا التردد الاستراتيجى (بما يعنيه من عدم الحسم) يعطيهم رفاهية عدم اتخاذ القرار، وهو ما يبقى الوضع على ما هو عليه فتبقى الجماعة تتعرض لقمع جزئى يعطل نموها ولكنه يبقى قدرتها على النمو العددى المحصور فى إطار تنظيمى، ولكن التاريخ يعلمنا أن الأمر ليس كذلك فى اللحظات الحاسمة، فللمستشار طارق البشرى كلمة عميقة يقول فيها إن الإخوان «عوقبوا» تاريخيا لعدم القرار أكثر مما عوقبوا على القرار، حدث ذلك عام 1954، وحدث مرة أخرى عقب الانتخابات البرلمانية الماضية، فمثل هذا التردد يشل عقلها الاستراتيجى وقدرتها على المبادرة ويحصرها فى خانة رد الفعل، كما أنه يظهرها بصورة نفعية لا تعكس حقيقتها ولكنها تعظم البون بينها وبين القوى الوطنية الأخرى.