فاروق عبدالقادر يشبه حبة الخردل.. وهى أصغر الحبوب، لكن متى «ماتت» فى الطين، تنمو وتصبح من أكبر البقول، وتصير شجرة كبيرة، حتى إن طيور السماء تأتى وتبيت فى أغصانها.نقول هذا على أمل أن يشهد الراحل فاروق عبدالقادر ذكرى أكثر كرما، وأفضل حالا من حياته على الأرض. فى التاسعة صباح الأربعاء الماضى، ذهبنا إلى مسجد مستشفى القوات المسلحة بالمعادى، لنشيع جنازة الناقد الكبير. وكنا على رهان: هل سيحضر الوسط الثقافى تشييع الجنازة أم لا؟!. قال أحدهم إن الشباب الذين قدمهم عبدالقادر بالتأكيد سيحضرون جنازته، وقال آخر لابد أن يحضر أصدقاؤه من كبار الكُتاب.لكن للأسف لم يكسب أحد الرهان، إذ كان المشهد غير متوقع، ويدعو للإحباط. ثلاثة فقط حضروا التشييع: إبراهيم أصلان، وخيرى شلبى، وسعيد الكفراوى، فضلا عن صديقه الدكتور حسين عبدالقادر، والكاتب الصحفى أسامة الرحيمى.وجدت الأستاذ إبراهيم أصلان خارجا من المسجد بعد صلاة الجنازة. بدا عليه الحزن الشديد ممزوجا بغضب مقدس: «منحه جائزة التفوق فى الآداب إهانة له وللحركة الثقافية كلها.. كان من الأولى حصوله على مبارك أو التقديرية فى الآداب.. ده ناقد كبير». د. حسين عبدالقادر شرح الأمر: لم ترشحه جهة، فبالتالى لا يجوز الحصول على التقديرية أو مبارك، بل المتاح له هو جائزة التفوق التى يجوز أن يتقدم إليها الكاتب بنفسه أو من ينوب عنه.بعد هذا الجدل، حول حصوله على جائزة التفوق، انتهى الحديث إلى أن موته رحمه من هذه المهانة. وانطلقنا، فى عز الظهر، إلى مدافن أسرته بأبى زعبل فى الخانكة، بعد أن تركنا المثقفين الثلاثة: أصلان والكفراوى وشلبى. وهناك فى المدفن اشتد بنا الحزن، وطفح فينا الألم. تقلص عددنا إلى ثمانية أشخاص، تاه ثلاثة منهم فى الطريق، فلم يجد عبدالقادر من يقوم بدفنه. لكننا حاولنا الاستعانة بسائقى السيارات، منها سيارة تكريم الإنسان. ودفن العم فاروق عبدالقادر، دون أن يقرأ له أحد آيات من القرآن الكريم، أو يدعو له بالرحمة، فوقف أسامة الرحيمى يقرأ له الفاتحة. ومضينا فى طريقنا للرجوع نلعن حال الدنيا، وغياب المثقفين عن توديع عبدالقادر. ذكرنا أن معاناة فاروق عبدالقادر لم تقتصر على جنازته وما حاط بها فقط، بل امتدت لشهور، بدأت فى دار للمسنين بالتجمع الخامس، بعد وقوعه على الأرض، وإصابته بنزيف فى المخ، نتج عنه تجمع دموى، فنقل إلى مستشفى المقاولون العرب، الذى نال منه إهمالا شديدا، حيث أصيب بجفاف، ونزيف حاد فى المخ، وقرح الفراش. وتم نقله بعد ذلك إلى مستشفى الدمرداش، فزاد عذابه بنزلة رئوية حادة، وفقدان للذاكرة. إلى أن ناشد الكاتب الصحفى إبراهيم حجازى وزير الدفاع المشير طنطاوى، الذى وافق على رعايته مجانا بمستشفى القوات المسلحة بالمعادى. «الاستغناء عن العمل» مبدأ حاول تطبيقه فاروق عبدالقادر، ضمانا لموضوعيته النقدية، مؤكدا على فكرة «الكاتب الحر»، لذلك اختار أن يكون بعيدا عن أى مؤسسة ثقافية وصحفية. وكان يقول دائما إن ذلك يعفيه من أى التزامات، ويوفر له الحرية الكاملة، وأن جزءا من هذه الحرية يرجع إلى أنه يختار ما يكتب ويختار أين ينشره، ويكون مسئولا عنه مسئولية كاملة، أما عن السلبيات التى يجنيها من وراء ذلك فهو عدم الاستقرار المادى أو النفسى وعدم وجود جهة تحميه. لذلك ظل حتى آخر لحظة حسب وصف الرحيمى مخلصا لمعتقده، ليمنح قلمه أقصى طاقات الحرية، لكتابة ما يريد، وقتما شاء، دون مجاملات أو محاذير على حساب الأعمال الإبداعية. ومن ضمن مواقفه الجريئة التى اتخذها أنه هاجم عبدالرحمن الشرقاوى فى مسرحية «وطنى عكا»، كانت النتيجة أنه منع من الكتابة فى مجلة «روزاليوسف» عندما تولى الشرقاوى رئاسة تحريرها، مثلما منع فيما بعد من الكتابة فى مجلة «إبداع»، لأنه هاجم سمير سرحان، باعتباره أحد تلاميذ رشاد رشدى، الذى خرب الثقافة المصرية فى السبعينيات، وكان سرحان رئيس مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب التى كانت تصدر مجلة «إبداع». ومعارك أخرى كثيرة شنها عبدالقادر ضد كتُاب آخرين. ولعل ذلك المعتقد، وتلك الطاقات، جعلت من فاروق عبدالقادر شخصا قويا، يبدو عليه الصرامة أو الفظاظة، لكنه كان أبعد ما يكون عن ذلك، حسب كلام كل الذين عرفوه. ولمن لا يعرف عبدالقادر، فهو من مواليد بنى سويف عام 1938، تخصص فى دراسة علم النفس بكلية الآداب جامعة عين شمس التى تخرج فيها عام 1958 ثم عمل سكرتيرا لتحرير مجلة «المسرح»، فمسئولا عن ملحق الأدب والفنون بمجلة «الطليعة» التى كانت تصدرها مؤسسة الأهرام، وبعدها سافر إلى السعودية فى الخمسينيات للعمل فى صحيفة «الندوة»، ونشر فيها مقالات عن الاتجاهات الجديدة فى الفلسفة والأدب، ثم عمل فترة قصيرة بالهيئة العامة للاستعلامات. ترك عبدالقادر مؤلفات وترجمات تصل إلى نحو 25 كتابا، من أهمها فى مجال التأليف: «ازدهار وسقوط المسرح المصرى» و«نافذة على مسرح الغرب» و«أوراق من الرماد والجمر»، و«رؤى الواقع وهموم الثورة المحاصرة»، و«من أوراق الرفض والقبول»، و«من أوراق الزمن الرخو»، و«البحث عن اليقين المراوغ قراءة فى قصص يوسف إدريس». ومن خلال هذه الكتب وغيرها عرف القراء المصريون عبدالرحمن منيف وسعدالله ونوس وغيرهما من مبدعى العرب، إضافة إلى أنه عكف على ترجمة أغلب أعمال المسرحى بيتر بروك.لم يتزوج فاروق عبدالقادر، وظل وحيدا بعد وفاة شقيقته الكبرى التى كانت تقوم برعايته. وكل من يعرفه عن قرب، اكتشف ندمه على أنه ظل «أعزب». وفى العام 1994 أصدر عبدالقادر كتابه المهم «نفق معتم ومصابيح قليلة» وهو النفق الذى تجتازه الثقافة العربية، النفق الذى لا نهاية له على رغم المصابيح القليلة التى تضىء زواياه. أخيرا، لا يمكن تصور المشهد الثقافى خاليا من فاروق عبدالقادر ومن معاركه ومواقفه الجريئة، ولكن هذا هو حال الدنيا.