خرجنا من عزاء الناقد الكبير فاروق عبدالقادر، الجمعة الماضى، نحمد الله على أنه لم يترك زوجة أو أبناء، يلعنون الوسط الثقافى الذى ينتمى إليه، وامتدت صداقته ببعض أفراده لأكثر من 40 سنة. خرجنا غير مصدقين أن هذا هو عزاء فاروق عبدالقادر، الرجل الذى كان حلو المعشر، رغم عنفه وحدته تجاه مدعى الثقافة. تساءلنا، أين أصدقاء العمر، وأين الذين كانوا يلتفون حوله فى مقهى «سوق الحميدية» عله يلتفت إلى أحدهم فيكتب عنه، أين شباب الكُتاب الذين قدمهم وكتب عنهم وهو لا يعرفهم؟ فعندما عرفنا أن جنازته لم يحضرها سوى أربعة فقط من أصدقاء عمر الكتابة، إبراهيم أصلان وخيرى شلبى وسعيد الكفراوى وكمال رمزى، وأنه لم يصل غيرهم، ولم يجد من يحمل جسده مسافة نصف المتر بين النعش والقبر، عندما عرفنا هذا، ضحكنا على أنفسنا، وبررنا الأمر بأنه ربما لم يعرف الناس بموعد الجنازة، خصوصا أنها كانت فى التاسعة صباحا، وقلنا من المؤكد أن أمر العزاء سوف يكون مختلفا، ولكنها كانت مفاجأة مخيفة. فلم يحضر العزاء من أصدقاء الوسط اللعين، وغير المتسق مع ذاته إلا عدد محدود، لا يتخطى الخمسة عشر كاتبا، فضلا عن خمسة عشر مثلهم تقريبا من الأقارب أو الجيران. فى مدخل القاعة جلس كل من الناقد كمال رمزى، والكاتب إبراهيم أصلان مع ثلاثة أو أربعة من أقارب الراحل يتلقون العزاء، وبالداخل، كان هؤلاء يجلسون فى أحد الأركان: سعيد الكفراوى ومحمد سلماوى وصلاح فضل وعماد أبوغازى وبهاء طاهر وخيرى شلبى وفهمى عبدالسلام وأسامة الرحيمى وأحمد إسماعيل وأسامة عرابى وأحمد اللباد. وفى عزاء السيدات لم يتجاوز العدد خمسا، منهم هالة البدرى ومنى برنس التى خرجت من القاعة مصابة بالإحباط بسبب قلة عدد المعزين، وقالت إنها هاتفت العديد من معارف الراحل لتعلمهم بموعد ومكان العزاء، ولكنهم كانوا يصدمونها بأنه «لم يكن له أحد لنعزيه». تقول برنس: «هو فقيدنا نحن، وكان يجب أن نأتى لنعزى أنفسنا على الأقل»، تكمل: «جيلى والجيل الأكبر منى، قدمهم الرجل دون أن يعرف أغلبنا معرفة شخصية، خسارة». الغريب فى الأمر، أنهم حتى لم يفكروا فى الأمر بشكل براجماتى، فهذا العزاء كان من الممكن أن يكون تجمعا كبيرا، ووقفة احتجاجية على إهمال الدولة ممثلة فى مؤسساتها الثقافية لقاماتها الفكرية والأدبية الكبيرة، ففاروق عبدالقادر ليس الأول، ولن يكون الأخير ممن أدى إهمال علاجهم إلى هذه النتيجة المؤسفة. هل من الممكن أن تكون شخصية عبدالقادر الرافضة الناقدة بوضوح، والمتمسكة بما هو صحيح، ومعاركه التى خاضها فى هذه المنطقة، تسببت فى هجر المثقفين لجنازته وعزائه، هل من المعقول أن يكونوا خلطوا بين المعارك الفكرية، والأدبية وبين الواجب والأصول والعلاقة الشخصية؟!. ربما، خصوصا أنه كان حادا وجريئا ولا يزوق الكلمات، تكوينه العنيد، والمتصالح مع نفسه، فرض عليه هذا، وهو ما أصابه بأضرار مادية بالغة منذ أن بدأ عمله بالأدب والصحافة الثقافية. فى تعليق للدكتور مجدى يوسف، أستاذ الأدب وأحد زملاء دراسة الراحل الكبير، على الموضوع الذى نشرته «الشروق» بعنوان «وقائع الرحيل المؤلم عن أيام الرماد والجمر»، يقول: «كان الراحل فاروق عبدالقادر زميلا لى فى قسم علم النفس بآداب عين شمس. وأذكر أنه ذهب إلى بورسعيد وأسهم فى المقاومة الشعبية هناك أثناء العدوان الثلاثى، وعاد إلينا وذراعه فى الجبس. ولكنه لم يأبه لذلك على الإطلاق فقد كان يرى أن ذلك أقل ما يجب أن يفعله المثقف نحو وطنه»، يكمل: «سافرت للخارج وعدت فى إجازة صيفية بعد عشر سنوات من الانقطاع فى 1970، لأجد فاروق يعمل سكرتيرا لتحرير مجلة الطليعة، وكان كعادته عصبيا بعض الشىء فى تعامله مع أصدقائه وخلانه، ولكنه كان فى جميع الحالات نقى السريرة شريفا لا يجاهر أو يكتب إلا ما يرى أنه صحيح ومهما كلفه ذلك، لدرجة أنه رفض مرة أن ينشر موضوعا للراحل نعمان عاشور، ولما راجعه فى ذلك رئيس التحرير لطفى الخولى قال له رأيه فى الموضوع، فقال له الخولى: إنه نعمان عاشور ولو قال ريان يا فجل لابد أن تنشره، فهو كاتب أكبر من أن تحكم أنت عليه! ولكن فاروق كان لا يعترف سوى بما يقنعه هو ومهما كان الثمن». وكان هجومه على مسرحية «وطنى عكا» للكاتب الكبير عبدالرحمن الشرقاوى من أشهر المعارك، والمواقف الأدبية التى خاضها فاروق عبدالقادر، وهو ما منعه من الكتابة فى مجلة «روزاليوسف» أثناء رئاسة الشرقاوى لتحريرها. ولكن هل كان عبدالرحمن الشرقاوى يتعامل بهذه الدرجة غير الموضوعية؟. الإجابة يوضحها الكاتب الكبير عادل حمودة فى إحدى مقالاته التى كتبها عن عبدالقادر منذ سنوات، يقول حمودة عن عبدالقادر: «الغربة والثقافة وملفات الأمن السرية علمته أن الوظيفة الحكومية ترف لن يصل إليه، كانت الوظيفة بكل ما تعنى وتغنى مثل جبل سيزيف ما أن يقترب منها حتى يجد نفسه بعيدا عنها وأشهد أنه دفع رأيه دائما ثمنا فى عدم الحصول عليها، لقد كان يكتب بالقطعة عندما جاء عبدالرحمن الشرقاوى لرئاسة روزاليوسف بعد أن أطلق على ما جرى فى 15 مايو 1971 يوم أن تخلص أنور السادات من خصومه فى السلطة ثورة التصحيح. وعكست هذه الظروف الضاغطة والمؤثرة والمربكة نفسها على المجلة الليبرالية الراديكالية التى تعودت أن تكون على يسار السلطة واختلط الحابل بالنابل واستغل البعض مقالة نشرها فاروق عبدالقادر ضد مسرحية «وطنى عكا» التى كتبها عبدالرحمن الشرقاوى فى الوقيعة بينهما، فكان أن حرم فاروق عبدالقادر من الانتماء الدائم إلى روزاليوسف». ورغم أنه دفع الثمن غاليا، إلا أنه لم يتوقف عن إبداء آرائه بجرأة، ودون وضع معايير المصلحة فى الاعتبار، ولم يكن لديه أى مانع فى أن يهاجم، وبشدة، الدكتور سمير سرحان، رئيس مجلس إدارة هيئة الكتاب الأسبق، وكانت تصدر عنها مجلة إبداع، التى كان يكتب فيها عبدالقادر، ولكنها نفس النتيجة، فمثلما منع من الاستقرار فى روزاليوسف، منع أيضا من الكتابة فى مجلة «إبداع». كان هناك أيضا صداما شهيرا فى حياة فاروق عبدالقادر، والحقيقة أنه لم يكن شهيرا فقط فى حياة فاروق عبدالقادر، بل كان ومازال، من أشهر المعارك فى الوسط الأدبى منذ ستينيات القرن الماضى وإلى الآن، وهو خلافه مع الكاتب الكبير جمال الغيطانى، الخلاف الذى يرى البعض أنه وصل إلى حد العداء. ما تفاصيل هذا الخلاف، وهل هو شخصى أم موضوعى؟. الإجابة عن هذا السؤال، قالها فاروق عبدالقادر نفسه، بصراحة متناهية، فى حواره مع الزميل محمد أبوزيد فى جريدة «الشرق الأوسط»، قال: «بداية أنا لا أكره جمال الغيطانى. ولماذا أكرهه أصلا وأخصه بالكره، وأنا أول ناقد يكتب عن جمال الغيطانى دراسة طويلة فى حياته، وأنا أتحدى جمال الغيطانى أن يقول سببا شخصيا وراء ما أكتبه سلبا أو إيجابا، ولم يحدث إطلاقا أننى نافسته فى أى شىء ولا على أى شىء، لا على منصب ولا مكان ولا نقود ولا حتى امرأة، ولا أنا أكتب ما هو يكتب ولا توجد أى مبررات حتى أتخذ موقفا ضد جمال الغيطانى». يكمل صاحب «أوراق الرماد والجمر»: «أخذت موقفا تجاه أعمال جمال الغيطانى، أما شخصه فهو لا يعنينى فى كثير أو قليل، وكتبت عنه أول دراسة طويلة فى مجلة الطليعة عام 1972 بعنوان الوجه والقناع وكان وقتها لم يصدر سوى مجموعته، «أوراق شاب عاش من ألف عام»، وكانت رواية، «الزينى بركات»، مازالت مخطوطة، وأنا قرأتها مخطوطة. وفى سنة 1975 كنت مسئولا عن ملحق الأدب فى مجلة الطليعة، طلب منى مراسل ليموند فى القاهرة أن أكتب دراسة عن الاتجاهات الجديدة فى الأدب المصرى وقتذاك، فكتبت عن أمل دنقل ومحمد عفيفى مطر، وأبوسنة فى الشعر، وفى القصة عن الغيطانى ويحيى الطاهر عبدالله وعبدالحكيم قاسم. وفى سنة 1976 كتبت عن روايته «وقائع حارة الزعفرانى»، وهى رواية مليئة بالثرثرة، ثم عن روايته «رسالة فى الصبابة والوجد»، ثم كتبت فى مجلة روزاليوسف عن روايته «هاتف المغيب» بعد أن لفت نظرى أنها تنشر فى جريدة الجمهورية مسلسلة وفى جريدة البيان، ثم فوجئت أنها نشرت فى كتاب الهلال خلال أسبوعين ولم تزل تنشر فى الجمهورية، فوجدت نفسى أمام ظاهرة فقلت إن الأسباب ليس امتياز الرواية ولا تفردها بل شبكة العلاقات العامة. فلم يرد الغيطانى علىّ وحرض الآخرين على الكتابة ضدى، وكتب هو ما سماه ببلطجية النقد الأدبى الذين يشهرون جنازير الابتزاز والمطاوى المسممة» ويعلق عبدالقادر على هذا الموقف قائلا: « لىّ تعليق على ما وصفنى به فى حوار بجريدة الشرق الأوسط، حيث قال إننى أكرهه وإننى أشبه مجنون سعاد حسنى، وأريد أن أسأله، كان هناك قديما مجنون سعاد حسنى ومجنون عبدالوهاب لماذا شبه الغيطانى نفسه بسعاد حسنى ولم يشبه نفسه بعبدالوهاب، وما السبب وراء ذلك، أتمنى أن أعرفه». نتصور الآن روح فاروق عبدالقادر، تنزل إلى وسط البلد ليلتى الأحد والثلاثاء، تحوم بين مقاهيها: ريش، زهرة البستان، سوق الحميدية، الأتيليه.. ترى أهى مندهشة من نهاية صاحبها، أم إنها فرحة بسبب تأثير نقده القوى الحاد العنيد على من أصر على تعريتهم طوال الوقت، فرحة بسبب تخلصه من «نيران الحياة» كما كتب عادل حمودة قبل سنوات، «نيران الحياة التى صهرته وميزته وجعلته قائما مستمرا مؤثرا فى وقت تساقطت فيه أصنام الكتابة التى صيغت من العجوة تبخرت هذه الأصنام أو أكلتها الأيام، فقد كانت مواهبها سريعة التبخر سريعة الاحتراق».