تظل تجربة السلام المصرية-الإسرائيلية واحدة من أكثر التجارب ثراءً فى تاريخ تسويات الصراعات فى الشرق الأوسط، لا لأنها قدمت نموذجًا مثاليًا أو قابلًا للاستنساخ، بل لأنها كشفت، بوضوح نادر، كيف يمكن لإرادة سياسية واعية أن توظف موازين القوة المختلة، وتحتوى انحيازات الوسيط الدولى، وتحول لحظة عسكرية محدودة إلى تسوية سياسية مستقرة. وبعد مرور ما يقرب من نصف قرن على توقيع معاهدة السلام، تعود هذه التجربة اليوم لتفرض نفسها بوصفها إطارًا مرجعيًا للتفكير فى مآلات الصراع الفلسطينى-الإسرائيلى، وفى سبل الخروج من المأساة المتفاقمة فى غزة وعموم الأراضى الفلسطينية. • • • الدرس الأول الذى تقدمه هذه التجربة يتمثل فى مركزية القرار الوطنى، وفى ضرورة الفصل بين الاعتبارات الانفعالية الآنية وبين الحسابات الاستراتيجية طويلة الأمد. فمصر دخلت مسار السلام بعد حرب أكتوبر، وهى تدرك أن الحرب، رغم أهميتها الرمزية والعسكرية، لا يمكن أن تكون أداة دائمة لتحقيق الأهداف الوطنية. ومن ثم، لم يكن خيار التفاوض تعبيرًا عن ضعف، بل امتدادًا عقلانيًا لاستخدام القوة، وتحويل نتائجها المحدودة إلى مكاسب سياسية ملموسة. هذا الدرس يظل بالغ الأهمية فى الحالة الفلسطينية، حيث تختلط فى أحيان كثيرة مشروعية المقاومة بغياب استراتيجية سياسية جامعة، قادرة على تحديد الهدف النهائى وترتيب الأولويات. أما الدرس الثانى فيرتبط بالعلاقة المعقدة بين ميزان القوة والتسوية السياسية. فقد قبلت مصر التفاوض مع إسرائيل فى ظل اختلال واضح فى ميزان القوة العسكرية، لكنها فعلت ذلك من موقع من امتلك أوراق ضغط حقيقية، أهمها كسر حالة الجمود العسكرى، واستعادة الثقة بالنفس الوطنية، ووضوح الهدف السياسى. لم يكن السلام نتيجة تنازلات مجانية بل حصيلة تفاوض شاق، استند إلى تعريف دقيق للمصالح، وإلى قدرة على التمييز بين ما هو قابل للمساومة وما هو غير قابل لها. وفى السياق الفلسطينى، يظل هذا التمييز غائبًا أو ملتبسًا، ما يحول دون تحويل التضحيات إلى مكتسبات سياسية مستدامة. ويأتى الدرس الثالث، الأكثر حساسية وربما الأكثر أهمية اليوم باعتبارات الواقع الفلسطينى والإسرائيلى، متصلًا بطبيعة الدور الأمريكى فى رعاية عملية السلام. فمن الخطأ اختزال تجربة السلام المصرية–الإسرائيلية فى كونها نتاجًا لانحياز أمريكى لإسرائيل، أو افتراض أن هذا الانحياز حال دون التوصل إلى تسوية عادلة ومستقرة. الواقع أن الولاياتالمتحدة كانت، ولا تزال، وسيطًا منحازًا، لكنها فى الحالة المصرية لم تكن وسيطًا عاجزًا عن الضغط، ولا طرفًا مطلق اليد. لقد نجحت القاهرة فى احتواء هذا الانحياز عبر مفاوضات صلبة، وعبر تعريف واضح لما تريده من السلام، وعبر ربط الاتفاق بإطار قانونى دولى واضح، ما جعل الانحياز الأمريكى عاملًا يمكن إدارته، لا عقبة مستعصية. هذا الدرس بالغ الأهمية اليوم فى السياق الفلسطينى. فالمشكلة لا تكمن فقط فى انحياز الولاياتالمتحدة، بل فى غياب استراتيجية فلسطينية موحدة وقادرة على توظيف هذا الدور، والضغط عليه، والاستفادة من تناقضاته. فالوسيط المنحاز لا يمنع بالضرورة الوصول إلى تسوية، إذا وُجد طرف يمتلك رؤية واضحة، ويعرف كيف يفاوض، وكيف يربط بين المسارات، وكيف يستخدم الدعم الدولى والقانونى لتعديل موازين القوة داخل العملية التفاوضية. الرهان ليس على تغيير طبيعة الدور الأمريكى، بل على القدرة الفلسطينية على التعامل معه بواقعية سياسية. أما الدرس الرابع فيتعلق بخطورة الفصل بين المسارات، وهو أحد أكثر جوانب التجربة التاريخية إشكالية. فقد جرى فى كامب ديفيد ربط المسارات العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية على نحو مكن طرفى الصراع مصر وإسرائيل وبدعم من الولاياتالمتحدةالأمريكية من الانفتاح على مبدأ الأرض مقابل السلام (بانسحاب إسرائيل من سيناء وتوقيع معاهدة السلام) ومن الربط بينه وبين علاقات دبلوماسية وكذلك بينه وبين حوافز أمريكية مقدمة للطرفين فى المجالات العسكرية والاقتصادية والتجارية. فى السياق الراهن، يبرز خطر التعامل مع غزة بوصفها ملفًا منفصلًا، يمكن احتواؤه عبر ترتيبات أمنية أو إنسانية، بمعزل عن الضفة الغربية والقدس. إن أى تهدئة فى غزة لا تُدرج ضمن تصور سياسى شامل، يربط بين إنهاء الحرب وإنهاء الاحتلال، ستعيد إنتاج منطق إدارة الصراع لا حله. الفصل بين المسارات يمنح الطرف الأقوى فرصة لتكريس الأمر الواقع، وتحويل المؤقت إلى دائم. من هنا، فإن أحد أهم دروس السلام المصرى -الإسرائيلى يتمثل فى ضرورة ربط أى ترتيبات مرحلية بأفق نهائى واضح، وبمرجعية سياسية وقانونية لا لبس فيها، تمنع التلاعب بالنصوص أو إفراغها من مضمونها. يتمثل الدرس الخامس فى الأهمية الحاسمة للإطار المؤسسى والقانونى للسلام. فمعاهدة السلام المصرية–الإسرائيلية لم تكن مجرد تفاهم سياسى، بل اتفاق دولى ملزم، تضمن آليات تنفيذ، وضمانات، والتزامات متبادلة، ما وفر لها قدرًا من الصلابة والاستمرارية. هذا الإطار لم ينتج سلامًا دافئًا، لكنه نجح فى تحقيق الاستقرار، ومنع العودة إلى الحرب، وهو هدف جوهرى فى أى تسوية سياسية. فى المقابل، افتقرت العملية السياسية الفلسطينية، منذ أوسلو، إلى مثل هذا الإطار الملزم، ما سمح بتآكلها التدريجى، وبإعادة تعريفها وفق ميزان القوة لا وفق القانون الدولى. • • • اليوم، ومع الحديث المتزايد عن «اليوم التالى» فى غزة، تبرز الحاجة إلى استعادة هذا الدرس بوضوح. فإعادة الإعمار، وإعادة بناء المؤسسات الفلسطينية، وتوحيد النظام السياسى، كلها مهام لا يمكن إنجازها عبر تفاهمات مؤقتة أو ترتيبات أمنية معزولة. المطلوب هو إطار سياسى-قانونى متكامل، يستند إلى قرارات الشرعية الدولية، ويحدد جدولًا زمنيًا ملزمًا، ويضع آليات واضحة للمتابعة والتنفيذ. دون ذلك، سيظل أى وقف لإطلاق النار هشًا، وأى تسوية قابلة للانهيار. فى التحليل الأخير، لا تقدم تجربة السلام المصرية–الإسرائيلية نموذجًا جاهزًا، لكنها تقدم دروسًا عملية لا غنى عنها. فهى تذكّرنا بأن السلام ليس نتاج حسن النوايا، ولا ثمرة توازن مثالى فى القوة، بل نتيجة إرادة سياسية واعية، وقدرة على التفاوض، واستعداد لإدارة الانحيازات الدولية لا الاستسلام لها. وفى لحظة فلسطينية بالغة القسوة، تبدو الحاجة ملحّة إلى هذا النوع من التفكير الواقعى، الذى لا يختزل الصراع فى بعده العسكرى، ولا يفرغ السلام من محتواه السياسى، بل يسعى إلى تسوية عادلة وقابلة للحياة، تضع حدًا لدورات العنف، وتفتح أفقًا حقيقيًا للاستقرار فى فلسطين وإسرائيل وفى عموم الشرق الأوسط. أستاذ العلوم السياسية ومدير برنامج الشرق الأوسط فى مؤسسة كارنيجى للسلام الدولى